ريحانيات

 

حوار جيلين

 

 

مجموعة قصصية مشتركة

بين إدريس الصغير ومحمد سعيد الريحاني

 

باب محمد سعيد الريحاني

                                                                                                          

 

 

 

النص الأول

 

 

 

هَلْ قَرَأْت يَوْماً عَنِ الأَشْبَاحِ؟

 

 

 

 

"هذه قصتي إلى كل من يود أن يعرف كيف صرت مجنونا: في قديم الأيام قبل ميلاد كثيرين من الآلهة نهضت من نوم عميق فوجدت أن جميع براقعي قد سرقت (...). وعندما بلغت ساحة المدينة إذا بفتى قد انتصب على أحد السطوح وصرخ قائلا: '''إن هذا الرجل مجنون، أيها الناس'''. وما أن رفعت نظري لأراه حتى قبّلت الشمس وجهي العاري لأول مرة. لأول مرة قبلت الشمس وجهي العاري فالتهبت نفسي بمحبة الشمس ولم أعد بحاجة لبراقعي. وكأنما أنا في غيبوبة صرخت قائلا: '''مباركون مباركون أولئك اللصوص الذين سرقوا براقعي'''"

 

جبران خليل جبران

نص "كيف صرت مجنونا"، عن كتابه "المجنون"

 

 

 

 

 

 

 

من الوثائق اللازمة لعقد القران، بطاقة هوية "بيومترية". وعليه، فقد صار لزاما علي تجديد النسخة المتقادمة من بطاقة هويتي في أقرب الآجال ليس فقط لضمان الظفر بامرأة العمر بل أيضا للنجاة بجلدي. فالتلفاز، منذ الصباح حتى المساء، لا يكف عن إذاعة الوعد والوعيد والتهديد تلو التهديد لكل من تهاون في تجديد بطاقة هويته:

- من لا يتوفر على بطاقة "بيومترية" سيتعرض، ابتداء من فاتح يناير القادم، لغرامة تصل إلى ألف درهم عند كل مرة لا يدلي بها للشرطي الذي سيطلبها منه. كما أن جوازات السفر وباقي الوثائق الإدارية  لن تُسَلّم إلا لمن يتوفر على هذه الوثيقة الهامة لكل المواطنين البالغين.

 

هرج ومرج في البلد وتَدَافُعٌ لدى مخافر الشرطة واستوديوهات المُصَوّرين ومُقاطعات الحالة المدنية ووكالات الفوتوكوبي...

 

سألت عن لوازم تجديد البطاقة "البيومترية" فكان الجواب:

- تاريخ الازدياد وصورتان فوتوغرافيتان وشهادة سكنى ونسخة مصادق عليها من البطاقة الوطنية...

 

اعتقدت أن جمْعَ وثائق بسيطة كهذه سيتطلب مني يوما أو بعض يوم لكن مُنبهاً نَبهني إلى حسابات مغايرة تنتظرني وتنبني جميعها على رياضيات مغايرة:

- سيتطلب منك تاريخ الازدياد يومان من التردّد على مكتب الحالة المدنية: اليوم الأول لدفع الطلب واليوم الثاني لتسلم الوثيقة. وحين تتوصل بالنسخ المطلوبة من تاريخ ازديادك ستدفعها بمعية لوازم أخرى للحصول على شهادة السكنى. وستتطلب منك شهادة السكنى، هي الأخرى، يومان من الوقوف على عتبات المقاطعة الحضرية: يوم تدفع فيه الطلب ويوم آخر تتسلم فيه الوثيقة. وحين تتوصل بالنسخة المطلوبة من شهادة سكناك، آنذاك عليك الذهاب إلى مخفر الشرطة لدفع اللوازم ورَسْم البصمات لكن الأمر هناك سيتطلب منك أيضا يومان: اليوم الأول للتسجيل في لائحة المواطنين المترشحين لإيداع الوثائق ويصل عددهم إلى المئات ممن قدموا للمركز مباشرة بعد صلاة الفجر وسجلوا أسماءهم على القائمة وهم يعلمون بأنهم يتسجلون لليوم الموالي... وبعد كل ذلك، يبدأ انتظار الحصول على البطاقة الوطنية "البيومترية" الذي قد يصل إلى شهرين أو أكثر. أما إذا كنت، بعد وضع اليد على البطاقة الوطنية "البيومترية"، تريد الحصول على جواز سفر "بيومتريّ" فيمكنك المرور عبر نفس قن المسار وانتظار نفس المدة لتسلم الوثيقة من السلطات...

 

أصابني كلام المتكلم بالدوخة لكنني تسلحت بالعزيمة وبكناش الحالة المدنية وقصدت الإدارة المعنية بأمر تواريخ الازدياد وبدأت انتظر فتح الباب في الوقت الذي يفترض فيه أن يكون أحد الأعوان بادئا استعداده لإغلاقها مادامت الساعة كانت تشير إلى الثالثة زوالا.

 

كنت الوحيد الواقف أمام الباب المسدود للإدارة التي يبدو ألا أحد يزورها أو يعمل داخلها. شيء واحد طمأنني بأن هذه المؤسسة ليست مهجورة وهو عدم وجود شباك عناكب على زوايا نوافذها وأبوابها. لذلك، قررت الصمود على عتبة الباب وانتظار فتح الباب ليقيني بأنني سأكون أول المواطنين في دفع الطلب وربما في اختصار الوقت فأنال وثيقة تاريخ ازديادي في نفس اليوم إذ لن يكون ثمة داع للانتظار حتى يوم الغد.

 

طال الانتظار ونفذ صبري.

 

سألت أحد المارة عن توقيت عمل الإدارة فأجابني بأن نقابة موظفي القطاع تضرب اليوم الاثنين عن العمل.

 

اندهشت للخبر وللوقت الطويل الذي أضعته واقفا أنتظر اللاشيء.

 

انسحبت، أخيرا.

 

في اليوم الموالي، الثلاثاء، كنت أول مواطن يقف على عتبة الإدارة المسدودة. ظللت أنتظر حتى أشفق عليّ سائق سيارة أجرة إذ قال لي من وراء المِقْود داخل عربته:

- الموظفون في إضراب قطاعي لمدة ثلاثة أيام.

 

صُدمت للخبر ولكن لم يكن بقربي حتى من يشاركني الاحتجاج أو الشكوى فأجلت لطم رأسي مع الحائط وانصرفت.

 

في الأسبوع المقبل، رجعت وظللت أنتظر لكن لا أحد فتح الباب لا صباحا ولا مساء. قصدت دُكاناً مجاوراً وسألته عن سبب غلق باب الإدارة فأجابني بأن الموظفين في إضراب قطاعي لكنني، تحت ضغط الانفعال، قاطعته:

- بالله عليك، قل لي متى لا يضربون؟

 

لم يفهم الرجل السؤال فغيرت العبارة:

- في أي يوم لا يكون الموظفون مضربين؟

 

فأجابني بعفوية ظاهرة:

- يومي الخميس والجمعة.

 

قالها وانصرف عني لخدمة زبون دخل الدكان للتو.

 

عدت صباح يوم الخميس إلى مكتب الحالة المدنية وكم كانت سعادتي بالغة لما رأيت من البعيد باب الإدارة مشرعا. كانت سعادة غامرة لا توازيها إلا سعادة من رآى باب السماء يفتح في ليلة القدر فيطلب ما يريد ويلبى له طلبه في الحال. لكن الموظف الذي تسلم مني كناش الحالة المدنية وثمن النسخ المطلوبة من تواريخ الازدياد أخبرني بالعودة مُجدّداً في اليوم الموالي، الجمعة، لأن رئيسه الذي سيوقع الوثائق يحضر اجتماعا...

 

رجعت في اليوم الموالي، الجمعة، لكنني لم أجد الموظف الذي أودعته كناش الحالة المدنية فقد علمت من الموظف البديل الجالس في نفس الكرسي من نفس الشباك بأنه خرج في إجازة سنوية. كما علمت بأن رئيسه الذي كان أمس في اجتماع خرج قبل قليل لأداء صلاة الجمعة وأنه لن يرجع إلى الإدارة بعد تفرّق الصلاة وبأنه عليّ مُجَدّداً العودة يوم الاثنين...

 

يوم الاثنين صباحا، لدى عودتي، وجدت باب الإدارة مغلقا وتذكرت بأن الموظفين، طيلة السنة، يضربون عن العمل أيام الاثنين والثلاثاء والأربعاء. عدت أدراجي هذه المرة طواعية فقد بدأت أعرف الأسباب التي يفتح من أجلها الموظفون باب الإدارة والأسباب التي من أجلها يغلقونها.

 

عدت صباح يوم الخميس لكن الموظف فاجأني وهو يتصفح أكوام كنانيش الحالة المدنية قائلا:

- ليس لدي كناش حالة مدنية يحمل اسمك. هل أنت متأكد بأنك وضعته لديّ؟

 

أجبته مؤكدا لكنه حرك قطعة تشكيك ثانية:

- ربما سحبه أحد من أفراد عائلتك دون مشورتك أو ربما طلبت منه أنتَ ذلك ونسيت؟

 

صُعِقْتُ لسماع كلام  الموظف.

 

لم أبعث أحدا لسحب وثائقي من المكتب كما أنني وضعت الكناش بيدي على مكتب الموظف الذي خرج في إجازة سنوية وأديت الرسوم كاملة من حافظة نقودي ثم إن ذاكرتي لازالت تحتفظ بتاريخ إيداع الطلب بالساعة واليوم والشهر والسنة...

 

بدأت أصرخ فصدق الموظفون بسرعة صراخي وطلبوا مني إمهالهم أربعا وعشرين ساعة للبحث عن كناش حالتي المدنية في مكتب الرئيس والمكاتب التابعة له فأوقفت صراخي، تحت رَبْتِ الأكفّ على كتفي، ووافقت تجاوبا مع الموظفين الذين خرجوا من شبابيكم لمواساتي وهم يواسون أنفسهم.

 

في اليوم التالي، الجمعة، كنت أمام باب الإدارة قبل حتى فتحها في الموعد المحفور على خشب الباب. ظللت أنتظر تقاطر الموظفين الذين بدأتُ الآن أعرف أسماءهم ومكاتبهم ومهامهم وسلالمهم ورتبهم...

 

سألت أحدهم إن كانوا قد وجدوا كناش حالتي المدنية بعد مهلة الأربع والعشرين ساعة فطلب مني بطاقة هويتي كي يختصر الوقت في البحث عنها.

 

أعطيته البطاقة ووقفت أنتظر حتى وصل مسامعي صوت آذان الظهر فتملكني الرعب من احتمال خروج الرئيس من مكتبه لأداء الصلاة لأنه لن يرجع إلى عمله إلا بعد أسبوع ما دام اليومان المواليان يوافقان يومي السبت والأحد، عطلة نهاية الأسبوع، وبعدهما يبقى الاثنين والثلاثاء والأربعاء أيام إضراب، أما يوم الخميس فيوم اجتماع فيما يبقى صباح الجمعة نصف يوم عمل لغاية صلاة الظهر...

 

بدأت أصرخ وأبالغ في الصراخ كي يسمعني الرئيس قبل أن يخرج من مكتبه ويرهنني لصباح يوم الجمعة القادم. خرج الموظفون من وراء الشبابيك التي كانت قبل قليل تفصلهم عني وتحلقوا حولي لطمأنتي بحتمية إيجاد كناش حالتي المدنية متوسلين تسلحي بالقليل من الصّبر وبالعودة يوم الجمعة المقبل لأن الرئيس خرج لأداء الصلاة من الباب الخلفي لما سمع الصّراخ في هذه الجهة من البناية وأقفل وراءه باب مكتبه حيث تتكدس كنانيش الحالة المدنية.

 

رجعت الجمعة المقبلة وطالبت، بانفعال شديد، بكناش حالتي المدنية فطلبوا مني بطاقة هويتي. أخبرتهم بأنها لديهم فلم يصدقوني.

 

ترى، كيف يكون لون الإغماء؟

أتراه أصفرا؟

أم أخضرا؟

أم هو توليفة من هذا وذاك؟

 

ما أذكره هو أنه، بعد سماعي لخبر ضياع بطاقة هويتي هي الأخرى، غشّى الكوْنَ لونٌ أصفرُ الخضرة أو ربما هو أخضر الصّفرة. وعلى غشائي الطبلي، أبطل الأزيز باقي الأصوات رغم أنني كنت أسمع بصعوبة صوتي وهو يسأل:

- هل أضعتم بطاقة هويتي أيضا؟

 

وفي أوج الخُدْر الغريب الذي يتملكني ويبطل حواسي الواحدة تلو الأخرى، كانت ثمة دبدبات صوتية لبورتريه وجه غير مكتمل تطفو في الأثير مهددة:

-  احترم نفسك!

-  أنت الآن في إدارة عمومية!

- هل الإدارة تضيع الوثائق؟

- زِنْ كلامك!...

 

قرب فراشي في بيت عائلتها، تفرغت خطيبتي لإنزال درجة الحمى في جسدي إلى مستوياتها العادية. وحين رمقتني أرمش من جديد، قالت مازحة:

- أرأيت؟ هناك دائما فرصة للحياة إذ يمكن للمرء أن يحيا ولو بدون وثائق ثبوتية!...

 

ثم، مازحة:

-  نعم، يحيا المرء بلا وثائق ولكنه يمر إلى الجهة الأخرى من الحياة للانتماء إلى الصنف الثاني من الأحياء!

 

ولتخفيف اضطرابي، قالت:

- هَلْ قَرَأْت يَوْماً عَنِ الأَشْبَاحِ؟

 

ولما لم أجبها، واصلت تَنَدّرَهَا بي:

- لقد صرت منهم، يا سيد "شبح"!

 

جَمَعْتُ الجهد الكافي لتركيب جملة مفيدة وقلت لها مُتَنَهّداً، قبل أن أنهض من الفراش وأغادر المكان وأهجر آدميتي:

- نعم، لقد صرت الآن السيد "شبح" تماما كما ستصبحين أنْتِ بعد قليل أول من يفقد النظر إلي والاتصال بي!...

 

 

 

 

 فهرس المجموعة القصصية

 

 

باب  إدريس الصغير

باب  محمد سعيد الريحاني

رجل، ورقة... وأحلام

في رحاب التقنية

في مقهى على ضفة نهر

هل قرأت يوما عن الأشباح؟

طريق الأحلام

الضياع

نومانز لاند / NO-MAN'S-LAND

فظاظة القبائل البعيدة

حقول الأقحوان وشقائق النعمان

الاسم "عاطل" والمهنة "بدون"

صانع الأحلام

الذي كان حرا

 أحلام طاميزودا

أحلام الظهيرة

 

 

 

خريطة الموقع

 

 

روايات

بَيَانَاتُ أدبية

"الحاءات الثلاث" مضامين الغد

مجاميع قصصية على الخط

 حِوَارَاتٌ مع الرَّيْحَاني

 حِوَارَاتٌ من الشرق والغربٌ

مجاميع قصصية مشتركة

درَاسَات سِيميَائِيَةُ للأسماء

دِفَاعًا عَنِ الْقِرَاءَةِ

السيرَةُ الذَّاتِيَةُ

المَكْتَبَةُ الإِلكْتْرُونِيَةُ

رهانات الأغنية العربية

ENGLISH

FRANCAIS

الصفحة الرئيسية

 

 

 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف

 

ALL RIGHTS RESERVED

 

 e-mail : saidraihani@hotmail.com

 

 

   <title>http://www.raihanyat.com/arabicversion-shortstory7-index.htm</title>

<meta name="description" content="حوار جيلين، مجموعة قصصية مشتركة بين محمد سعيد الريحاني وإدريس الصغير

<meta name="keywords" content=" أضمومة، مجموعة قصصية مشتركة">