ريحانيات
حوار
جيلين
مجموعة قصصية مشتركة
بين إدريس الصغير ومحمد سعيد الريحاني
باب إدريس الصغير
النص السادس
صانع الأحلام
استمع المواطن إلى نشرة الأخبار الزوالية، على شاشة التلفزة الملونة التي بها
خلل مدة تزيد على الشهر. لم يستطع لحد الآن إصلاحه، فمرة تظهر الصورة واضحة بدون
صوت،ومرة أخرى يجلجل الصوت وحده في فضاء الغرفة دون صورة وثالثة يغيبان معا، فيضطر
إلى الربت على هيكل الجهاز،ثم الخبط بانفعال، فيستجيب حينا، ويعصى أحيانا.
تحدثت المذيعة الجميلة عن كوارث طبيعية تقع في كل بقاع العالم، ووصفت حالة
أناس تجرف أجسامهم وأثاثهم وبهائمهم سيول المياه الرصاصية المائجة وآخرين يفرون من
ألسنة النيران الراقصة في الهواء وثلة أخرى وقد تداعت أجسادها منهكة تجاهد لفتح
أفواهها طلبا لما تسد به الرمق. ثم ظهرت صور لدبابات ورجال مسلحين يطاردون رجالا
ونساء واطفالا يطير بهم الخوف طيرانا. تلت ذلك أخبار عن رؤساء ووزراء يحيون بعض
الواقفين وهم يبتسمون ثم ينبرون لإلقاء خطبهم، وسط عواصف التصفيق ووميض آلات
التصوير. ثم رأى المواطن لقطات للاعبين يسجلون إصابات في المرمى، ثم يتقافزون كالقردة
ملوحين بأياديهم نحو الجماهير الهائجة، ولقطات عن امرأة مسنة ما زالت تحتفظ
بجمالها واناقتها تمتلك قصورا ومعامل وضيعات وأرصدة في أبناك متعددة إلا أنها تشعر بالوحدة،لأنها
لم تجد رجلا وفيا يحبها لذاتها لا لمالها،
لهذا أصبحت تفكر في الانتحار. ولما بدأت مذيعة أخرى مبتسمة كذلك وجميلة تعلن عن
حالة الطقس المنتظرة، ومن ورائها خريطة، كان المواطن قد بدأ يغفو.
في بداية إغفاءة المواطن، كان
ما يزال يحتفظ ببعض طزاجة ذهنه والقدرة على تسيير خواطره. فكر في أنه لو استسلم
إلى التداعيات العادية، لابد أن ينتهي به الأمر ككل مرة إلى الانغماس في أتون
كوابيسه المرعبة. لذلك، فكر أن يكون هذه المرة أذكى، فشرع في صنع حمله بنفسه، اتصل
بدار الإذاعة والتلفزيون شخصيا. سأل بالباب عن مذيعة نشرة أخبار الزوال. طلبوا منه
بطاقة هويته واحتفظوا بها إلى حين خروجه،
ثم الصقوا بصدره » بادج « ودلوه على
مكتب بالطابق الأول. وجد المذيعة ذاتها،غير أنها لم تكن مبتسمة ، كانت وكانها تقوم
لتوها من نوم عميق، قال لها:
-
أريد عنوان السيدة
المعذبة التي أذعت عنها خبرا في نشرة الزوال، والتي أضنتها الوحدة فبدأت تفكر في
الانتحار.
نظرت إليه نظرة مريبة، وخال أنها تبتسم في عمقها،
رغم أن لا شيء ارتسم على صفحة وجهها الذي بدا الآن أكثر يقظة. قالت له:
-
أنا لا أملك عناوين،
اقرأ الأخبار فقط.
دلته على قسم التحرير، ومنه صعد إلى مكتب رئيس
التحرير، ثم إلى مكتب المدير.
ولما غادر مبنى الإذاعة والتلفزة، بعد أن رد لهم » البادج « وردوا له بطاقة هويته، كان قد أجاب دون أن ينتبه إلى مئات الأسئلة
المتعلقة بحياته الخاصة والعامة،منذ ولد و الى ان قوس الزمان ظهره،ووخط الشيب
فوديه.
أحس في الطريق، وهو يسير، أن شخصا يتبعه غير أنه قال
في نفسه: لربما كنت واهما فلم يعد هذا الأسلوب شائعا ثم أني لا أمتلك عجينا في
بطني. سأل شرطي مرور عن السفارة، وهناك سألوه إن كان يريد تقديم طلب للحصول على
التأشيرة. شرح لهم الأمر فأحالوه على القسم الصحفي ومنه إلى الملحق الصحفي .
هذا فأل خير .
كانت امرأة، وقال في نفسه كذلك ،كاذب من قال بأن
الدنيا تخلو من الحظ . لقد درست حتى طاب قلبي
و نلت شهادات لكني لم أحصل على وظيفة تليق بالمقام ، تجلسني على مكتب وتير،
وتمنحني سكني و سيارة مصلحة واعتبارا بين الناس. كانت المرأة تتحدث بالعربية و
تدخن بنشوة، و تستفسر بما يشبه الاستغراب الصادق، ثم أخيرا مكنته من العنوان.
استفاق المواطن من نومه فوجد أن جهاز التلفزيون
مازال مشتعلا، و مذيع نحيف الجسد يقرأ نشرة الأخبار المسائية بانفعال.
كتب لها رسالة طيلة الليل، استحضر كل ما تعلمه من
اللغة الأجنبية و استعان بالقواميس وكتب الرسائل، و انتهت الرسالة في حلتها
الأخيرة مع انفلاق الفجر ثم كان أول من دخل مكتب البريد صباحا، ليلفظه نحو المقهى،
يشرب قهوته السوداء و يمص دخينته التبنية .
سيسدد في البادية كل ديونه... من استلفت منه مئة أرجع له ألفا، سينتقم من كل
الذين آذوه، أو من بعضهم على الأقل، لنقل بأنهم عشرة، بينهم ثلاث نساء.
واحدة...أوفلنترك ذلك الجمل باركا.
لن يجوع بعد اليوم و لن يعرى، و لن-يخاف من القايد
و لا من عميد الشرطة. سيصبح من الأعيان، و سينادوه ، في حله و ترحاله بالحاج، و سيفطر بالدار البيضاء و
يتغذى في باريس، ويتعشى في القاهرة. سيشتري يختا، وليأت بعد ذلك الموت، كما يقول
دائما صديقه مصطفى بو لعراس .
عاد الى البيت، استمع بإمعان إلى نشرة الأخبار
الزوالية، و بانتهائها، بدأ يغفو، فسارع الى صنع حلمه بنفسه، قبل أن تغدر به
التداعيات العادية التي تقوده حتما إلى كوابيسه المرعبة .
بعد شهر أتاه
الرد منها. عرف بان اسمها فرانسواز، خطها يشبه خط معلمة الفرنسية التي درسته ثلاث
سنوات متتالية، قالت له، أين كنت تختفي كل هذه السنوات الطوال التي ظللت أبحث فيها
عنك ؟ حتى قادني اليأس إلى التفكير في الانتحار؟ لكنها إرادة الرب. احضر حالا فأنا
لا أستطيع الانتظار بعد. أحبك .
مع الرسالة ورقة توجهه الى وكالة الأسفار لسحب
بطاقة الطائرة و إلى بنك ليستلم مقدارا ماليا .
كان مستعجلا، فلم يخط بدلته عند أشهر خياط
بالمدينة، بل اشتراها من محل بيع بدلات جاهزة. و مع البدلة جوارب و قمصانا و ثيابا
داخلية و حذاء و ساعة يدوية، و بايبا.
نعم بايب، مثل ذلك الذي يستعمله الدكتور النفساني
في قصة "ذلك الشيء" للكاتب أحمد بوزفور .
كان الآن هو والدكتور كلاهما يدخنان البايب في
العيادة. هو مضطجع و الدكتور بمحاذاته يجلس على كرسي. قال الدكتور:
-هكذا إذن بدأت أنت كذلك تدخن البايب، ثم بدأت تصنع
أحلامك بنفسك، أنت ذكي، وهذا يتعبني كثيرا .
أجاب بفتور .
-لست متأكدا ان كان الدكتور في القصة هو صاحب
البايب أم المريض .
ضحك الدكتور،ثم قال مطمئنا :
-لكي تتأكد ارجع إلى القصة مرة ثانية. ما يهمني
الآن هو أن أنصت إليك و أنت تتحدث ا لي .
كان قد بدأ يغفو، وقبل أن يستسلم لتداعياته
العادية، شرع في صنع حلمه .
فهرس المجموعة القصصية
خريطة الموقع
جميع
الحقوق محفوظة للمؤلف
ALL RIGHTS RESERVED
e-mail : saidraihani@hotmail.com
<title>http://www.raihanyat.com/arabicversion-shortstory7-index.htm</title>
<meta
name="description" content="حوار جيلين، مجموعة قصصية مشتركة بين محمد سعيد الريحاني
وإدريس الصغير
<meta name="keywords" content=" أضمومة،
مجموعة قصصية مشتركة">