ريحانيات
حوار جيلين
مجموعة قصصية مشتركة
بين إدريس الصغير ومحمد سعيد الريحاني
باب إدريس الصغير
النص الخامس
حقول الأقحوان وشقائق النعمان
هي !
الآن، تتذكر جيدا. تستعيد
الصورة بالكثير من التفاصيل. كنت واقفا على الطوار،
أمام دكانة البقالة ساهما
متأملا انعكاس دفقة شمس الأصيل على الحائط الذي بازائك على الطوار الآخر، حيث يلهو
صبية بكرة صغيرة، يتقاذفونها بأقدامهم، وهم يتضاحكون. هنا
منذ سنوات موغلة في القدم بجسمك الصغير وشعرك الأشعث تقاذفت الكرة مع الأتراب و
صحت حتى بح صوتك. عيناك شاردتان و الخدر يسري طيعا في
أوصالك الساكنة.
هي !
أنت لم تدرك ذلك أول الأمر. هزة خفيفة من يدها
على مرفق يدك اليمنى ثم طبطبة على الكتف. وحين التفت،
استقبلك وجهها مبتسما طافحا بالبشر. أنكرتها غير أنك
بادلتها التحية و أشرق وجهك بابتسامة مرحبة. من تكون؟
امرأة تعرفني؟ زميلة دراسة
قديمة؟ أم تكون ...؟
بسمتها تزداد ألفة و حنانا. العوارض المجلوة
البيضاء الناصعة و العينان البراقتان و تصفية الشعر. تشبه "رومي شنايدر".
عيناك تدوران في محجريهما و كأنما دوامة تلولب
رأسك ليتدحرج اربعين سنة إلى الوراء.
ميم. رومي شنايدر .
هي بالتأكيد هي. لم يفعل الزمن بها شيئا يذكر غير بدانة طفيفة ورزانة عمر رغم الوجه الطفولي.
هي !
كيف عرفتك... أربعون سنة لم يفضل من ذلك الفتى الغر سوى ركام يتحرك بين
أجساد الخلق و زعيق السيارات. يتأمل ما يحدث بحياد و
برود.
قالت مستغربة بالفرنسية:
-
غير ممكن.
الآن سكنت
الدوامة ،و كف دكان البقالة عن الدوران. نبرات صوتها لم
تتغير. رجعت أربعين سنة إلى الوراء رائحتها لم تتغير وقوامها ممشوق وقامتها اقصر منك.آه شفتاها. كان لابد أن تنحني. طعم القبلة الأولى. بوجل،
ودون سابق تجربة. آه من حلاوة رضاب الشفتين تحت شجرة سنديان.
نعم، هي. ميم... رومي شنايدر.
قالت، بالفرنسية كذلك:
- لقد هزلت كثيرا. أووف.
هو نفس التأفف الذي ترسله شفتاها المزمومتان،
كما كان منذ أربعين سنة خلت، بلكنة باريزية. أين أنا من
باريس !؟
هل هو إشفاق على حالك أم حنين للأيام الخوالي؟ ما
الذي أوقفك أمام دكان البقالة؟ وما الذي أتى بها إلى هذا الزقاق في هذه اللحظة بالذات؟ لماذا لم تكمل
طرقها؟ وتصد وجهها عن ركام العظام المتهالكة، التي عبث بها الزمن والأقدار ومقالب الجهلة والسياسيين والسماسرة ورجال
المخزن.
قالت بالعربية:
- كيف حال أسرتك؟
قلت:
- بخير.
كلامك مقتضب وزخم الأفكار مربك وجيشان العواطف يعمر القلب. أربعون سنة. أنت لا تدرين شيئا. كلهم
ماتوا وواراهم التراب،منذ أمد بعيد، ولم يفضل لك سوى ثلة صغيرة من الأصدقاء، وسط
حشد من المخلوقات،تحس ان علاقة لك بهم.
أنت لا تدرين شيئا. . هكذا استطيع الآن أن أضع العالم ،كل العالم، في كفة، وأضعك أنت في
كفة.غير أن هذا الأمر غير مفهوم الآن.
وحدهم أصدقاؤك يفهمونه. أية صدفة هاته.
أمس فقط رقصت صحبة صديقيك حتى الفجر كما لم ترقص منذ سنوات طوال. غنيت أغانيك
القديمة. كنت جذلا فرحا وخيل إليك أنك تطير بجناحين
سحريين، فوق أرض الله الواسعة، حيث يتقاتل البشر، دون ما سبب معقول.
هممت ان تتكلم،فقلت بارتباك:
- أنا...
قاطعتك بحسم:
- أعرف. أعرف.
لست متأكدا إن كانت فعلا
تعرف، ما الذي شرعت في قوله، ولم تعد أنت نفسك تتذكر.ما الذي كنت ستقوله. غير أنها مضت
في ابتسامتها الساحرة، فعبق المكان بشذى الأقحوان. آه من شذاه.
هي ذي حقول القمح تمتد مترامية
الأطراف، تزينها شقائق النعمان الحمراء. هل أطاردك
الآن، حتى يأخذ منا التعب مأخذه؟ هل نقرفص تحت فزاعة لنسرق القبل بعيدا عن أعين الرقباء؟ هل أنت هي
أنت،وهل أنا هو أنا؟
لعلها كانت تريد لهذا الحديث الصامت أن يستمر إلى
ما لا نهاية. غير أنك مددت لها يدك، فقط لتشد على كفها الصغيرة باصابعك المعروقة.
وليت وجهك دونها، وأرسلت قدميك على غير هدى ...
فهرس المجموعة القصصية
خريطة الموقع
جميع
الحقوق محفوظة للمؤلف
ALL RIGHTS RESERVED
e-mail : saidraihani@hotmail.com
<title>http://www.raihanyat.com/arabicversion-shortstory7-index.htm</title>
<meta name="description" content="حوار جيلين، مجموعة قصصية مشتركة بين محمد
سعيد الريحاني وإدريس الصغير
<meta
name="keywords" content=" أضمومة، مجموعة
قصصية مشتركة">