ريحانيات
حوار جيلين
مجموعة قصصية مشتركة
بين إدريس الصغير ومحمد سعيد الريحاني
باب إدريس الصغير
النص الثالث
طريق الأحلام
سأذكر ما حييت ذلك الطريق الواصل بين البيت وبناية السجن المركزي، طريق
أحفظه الآن خطوة خطوة، وأتذكر بدقة تغير معالمه، قطعة قطعة، طريق له طعم خاص،
رائحة متميزة، وأنت ذاهب نحو السجن صباحا، يكون النهر على يمينك ساكنا، تجوس صفحة
مائه الرصاصية، قوارب الصيد الخشبية المهترئة، وتكون
الشمس وراء ظهرك تجاهد لتتوسط صفحة السماء الزرقاء صيفا، متأهبة، لإرسال سياط
لهيبها على البنايات والأجساد والنبات، ثم يقاطعك قطار شحن بخاري، يسير منهوكا
صائحا، ينوء بحمل أكوام الجرائد والمجلات، يتسرب من باب الميناء، تحت نظرات، رجال
الجمارك المتجهمين. يتلصص الصبيان، على انتشال، أكوام من الأوراق، بحثا عن صور
نساء عاريات، صليل العجلات، يسحق قطع الحجارة، التي صفها الأطفال فوق سكة الحديد،
بعناية منتظرين تهشمها، مهللين بتحولها إلى دقيق، يفتتون جزئياته، بأصابعهم
الطرية، ثم يطلقون سيقانهم للريح مغتبطين.
وعلى يسارك، تكون الدور
والعمارات والمؤسسات، تنبت الواحدة تلو
الأخرى، دون تنسيق، تبدأ حفرا طويلة متقاطعة، تملأ حجارة واسمنتا وحديدا، ثم تعلو
حيطان الآجر الأحمر، لتطلى بطلاءات متباينة الألوان، ثم
لا نعرف بعد ذلك ماذا يحدث بالداخل. لم يكن للشارع طوار،
ولم تكن تصطف على جانبيه أشجار. غير أنهم كانوا في كل مرة،
يوسعون عرضه. فيضطرون لقطع الشجيرات ثم يعودون إلى زرع
أخرى، على بعد متر أو مترين من موقع الأولى.
أكون منهكا حين أصل السجن،
فأحشر جسدي وسط الأجساد لأشتم رائحة آباطها، وخلوف
أفواهها. أنصت إلى الثرثرات، والبكاء، والنزاعات
والهمسات والتوعدات. تحييني الوجوه التي أصبحت أعرفها.
وأصافح أناسا. لأبدأ معهم تعارفا جديدا.
وككل مرة، أجد أنني نسيت كل الكلام الذي حضرته بعناية. لأحدثه به. غير أنه في كل مرة يكون أكثر صفاء ذهن، فيحدثني بمعنويات
مرتفعة، أستغرب كيف، يمتلكها، بينما أظل أنا صامتا، منخور
الدماغ. سألني عن قطته المدللة، فأخبرته بأنها بخير،
وأن الكل يعتني بها كما كان يفعل، إذ لم أتجرأ على أن
أخبره، بأنها تاهت فلم تعد للبيت أو لربما تكون قد
ماتت، تحت عجلة سيارة. حدست بأنه لم يصدقني. وحدست كذلك أنه لا يصدق من كلامي أي شيء. غير أنني كنت أستلذ
دوما نبرات صوته، الجذابة، وطريقة نطقه حرف الراء،واكتشفت مع طول المدة ندبا بريئا
على ظهر جفن عينه اليمنى، خمنت أنه أثر لخياطة طبية، لا يظهر حين يكون فاتحا
مقلتيه، لكنك تتبينه حتما إذا أسدل الجفن على عينه اليمنى، مخلصا إياها من ألم بعوضة تائهة تسبح
في ماء المقلة أو ماسحا دمعة، ذليلة من خلائقها الكبر. لاحظت كذلك أن الشيب بدأ
يغزو برفق فوديه، وأن ملامح وجهه الحليق، اكتسبت وسامة
محببة. كان يملك ترتيبا دقيقا لأفكاره، وهو يصوغها دون
تكلف، بلغة تصلح لأن تكتب فتخلد، بدل أن تستهلك في حديث يومي، لتذهب أدراج الرياح.
كان رزينا، وكنت نزقا. أفكر في معالم الطريق المتغيرة دوما. مستحضرا حالتها، حين تتهاطل عليها شآبيب الأمطار،
وتتراكم على أديمها الأوحال وبرك المياه. أو حين تعلوها الأتربة، حتى إذا هبت
عليها الرياح، أثارت النقع فوق رؤوس المارة، وهياكل السيارات، فأقفل الناس
نوافذهم، وتلاعب الأطفال وسط لجة الغبار مهللين صائحين. أدركت
أخيرا أنني رجل أخرق، حلم طيلة عمره بامرأة، لم يكن لها وجود إلا في مخيلته،
وبمدينة بناها لبنة لبنة، وشيد مدارسها ومسارحها، ونظم حدائقها، فانهارت بسرعة الضوء،
في غفلة عنه، وانشق أديم الأرض ليبتلعها، فتصبح أثرا بعد عين. لكن. أين سيتوجه
الآن؟
من وراء السجن. هناك النهر. ومن وراء النهر هناك البحر، ستفضل لك ستة بحار.
وفي البدء هذه المرة، لم تكن الكلمة، بل كانت
الخطوة.
خطا الخطوة الأولى، ثم
ثلثها الثانية و الثالثة، ثم تتالت الخطوات حتى أصبحت منتظمة، فكان السير، ثم الإنسراب من الباب الحديدي الضخم البارد، لينقذف
في الشارع الفسيح الزاعق بأصوات الخلق، وهدير المحركات. يكون
النهر الآن على يسارك هادئا رصاصيا، باردا، وتكون الشمس الآن وراء ظهرك تجاهد
لتغرب ضخمة، كما لم تكن صباحا. ويتقاطع معك، القطار، وقد خلت عرباته الصدئة، يؤوب
أكثر خفة، وأقل عناءا تشيعه عيون الجمركيين منهمكين،
وعلى يمينك تربض البنايات، متأهبة، لتتلفع، بستار الظلام البهيم، تجاهد لمقاومته،
مصابيح صفراء كابية
فهرس المجموعة القصصية
خريطة الموقع
جميع
الحقوق محفوظة للمؤلف
ALL RIGHTS RESERVED
e-mail : saidraihani@hotmail.com
<title>http://www.raihanyat.com/arabicversion-shortstory7-index.htm</title>
<meta name="description" content="حوار جيلين، مجموعة قصصية مشتركة بين محمد
سعيد الريحاني وإدريس الصغير
<meta
name="keywords" content=" أضمومة، مجموعة
قصصية مشتركة">