ريحانيات

حوار جيلين

 

مجموعة قصصية مشتركة

بين إدريس الصغير ومحمد سعيد الريحاني

 

باب إدريس الصغير

 

 

 

 

 

النص الثاني

 

 

 

 

 

 

في مقهى على ضفة نهر

 

 

 

من خلال زجاجة واجهة المقهى، يرى النهر يتحوى في استدارته الثعبانية، حتى ليكاد يخلق جزيرة صغيرة، تتناثر فوق عشبها الأخضر بضعة أكواخ من الخشب والزنك، وقطعان غنم متعبة، ودجاجات تائهة.

       خارج محيط دائرة الجزيرة، وعلى الضفة الأخرى للنهر تصطف عمارات المدينة ومقاهيها وحاناتها ومراكز الشرطة. وعلى ربوة عالية ينتصب جدار السجن عاليا باردا مخيفا ببرج مراقبته الزجاجي، ذي الشكل الاسطواني ينبت في وسطه حارس مسلح بقبعته السوداء وعينيه الزائغتين. اليوم ضبابي بارد، وفوق مياه النهر الرصاصية تلهو طيور بيضاء متوسطة الحجم، فتفرج أجنحتها وتنزلق بليونة في الهواء.

       عبثا حاول أن يتذكر اسم هذا النهر. جاهد. أطرق برأسه، وعصر ذهنه مرات دون جدوى. لم يتذكر اسم السجن ولا حتى اسم المدينة. وتيقن الآن فعلا أنه شاخ قبل الأوان، وأنه لم يعد سوى كتلة لحم متيبس تكسو عظاما نخرة، يجلس كل يوم ببلادة وبلاهة إلى قهوة سوداء باردة مرة، أو إلى كأس نبيذ لاذع الطعم.

       لم يرد أن يسأل النادل، فمثل هذه الأسئلة تثير الشكوك والاستغراب، وحتى الاستهزاء. خصوصا أنه تعود قضاء يومه في هذه المقهى منذ مدة ليست باليسيرة.

        مرة سأل فتاة تعمل في إحدى الحانات: لمن تلك اللوحة المعلقة على الحائط؟

       فأجابته: لزوج أمك.

       وضحكت، فضحك منه كل السكارى، وخبطوا بأيديهم فوق الكونتوار، ففاضت كؤوسهم حتى غرق في خجله.

       فكر أن يذهب بعد خروجه من المقهى إلى باب السجن، حيث لا بد أن يجد الاسم مكتوبا بخط بارز أنيق فوق الدفتين الحديديتين الموصدتين، ثم يبحث عن مدخل المدينة أو مخرجها ليكتشف اسمها مرقوما فوق العلامة التي تنبه السائقين إلى وجوب لزوم مقوداتهم سرعة الأربعين. أما الأنهار، فلا يعلم إن كانوا يثبتون أسماءها على إحدى الضفتين أم...

       غير أنه لم يكن متأكدا من أنه سيفعل ذلك. فكثيرة هي الأمور التي يعزم على تنفيذها دون أن يقوى على ذلك. في كل يوم على شاشة التلفزيون يرى الرصاص الملعلع والأجساد المدماة والمدن المهدومة، والأطفال الباكين.في كل يوم يرى أناسا يحملون بقية متاعهم فوق رؤوسهم ويهرولون فزعين من لهيب متأجج. ثم يرى مغنيات أنيقات، وراقصات مكتنزات الأرداف، ووزراء ببطون مكورة، يتحدثون بهدوء، مبتسمين أمام كاميرات المصورين فلا يفقه شيئا. وحين يطفئ النور، ويدثر جسده بلحافه يرى أنه يسقط في بئر لا قرار لها. في كل ليلة يقع في البئر ذاتها، لكنه لم ينخبط يوما على أرضية قرارها. فقط يظل هاويا بسرعة و الريح تعبث بشعر رأسه وياقتي قميصه، وتصفر في طبلتي أذنيه إلى أن يستيقظ.

       مرة وهو يهوي كان يضاجع امرأة. اتخذا أوضاعا متباينة. مرة تكون فوقه، ومرة يكون فوقها. تارة يهويان عموديا وأخرى أفقيا. يتباعدان ثم يتدانيان. يفترقان ويلتصقان. امرأة سمراء رشيقة القوام. كانت تبكي وتلهث. تتألم وتلتذ.

 

       وهو؟ !

       أمام القهوة السوداء المرة الباردة والدخينة النتنة، وجرائد لا تقول شيئا، وبين رواد بديني الأجسام يغازلون فتيات صغيرات يطلين وجوههن بالأصباغ ليضحكن ويدخن السجائر بشراهة.

          على رصيف الميناء تربض البواخر صدئة تفرغ حمولتها بصبر، وصياد عجوز يلهو بإلقاء شبكته وسحبها باستسلام. وحين تمطر السماء تعصف شآبيبها ورياحها بعمال يثبتون قضيبي سكة الحديد عند مدخل الميناء، فيضعون القبعات على رؤوسهم، ويحشون أكفهم في القفازات ثم يستمرون في الشغل بهمة.

       تكونت للنهر الآن مويجات ترقص قوارب الصيادين المهترئة، وتعابث الضفتين المفروشتين بالطمي اللزج. تذكر أنه حين كان فتى يافعا عريض الصدر، عبر النهر ببراعة سباح ماهر.صارع التيار والأمواج فقط ليرى حبيبته التي كانت تنتظره هناك ليحضنها ويقبلها، فتطمئن بعد خوف. لربما كان النيل أو دجلة أو بردى، ولربما كان سبو... في المدرسة الابتدائية كان بارعا في رسم الأنهار على الخرائط. كثيرا ما أبدى أستاذ الجغرافية إعجابه بذلك. وكثيرا ما أوقفه أمام اللوح الخشبي الأسود المهيب ليرسم.  

       انتبهوا جيدا، وتابعوا هذا الفتى وهو يرسم. تعلموا منه.

       لكنه كان دائما يبدأ الرسم منطلقا من الشاطئ نحو المنبع. لا يصدق لحد الآن برغم كبره أن الأنهار هي التي تصب في البحار وليس العكس. لكن كثيرا من الحقائق تبدو غير قابلة للتصديق في زمننا الكابي هذا.

       هذا الفتى سيكون له شأن في المستقبل.

       ومات أستاذ الجغرافية أمام تلاميذه وهو يميز لهم بين أضخم نهر في العالم وبين أطول نهر. العمر لم يمهله حتى يرى شأن الفتى في المستقبل. ألسنا الآن في المستقبل.؟ ! هذه الكلمة الغامضة السرابية المنزلقة من بين أصابع اليدين كانزلاق الماء على راحتي متوضئ، شيخ قانت.

       الفعل المضارع هو ما دل على الزمن الحاضر والمستقبل.

       أليس هكذا علمونا قواعد اللغة العربية في المدرسة الابتدائية، وجذبوا آذاننا الطويلة ونحن نستظهرها؟

       وإن شئت المستقبل القريب استعملت السين: مثال. سنصبح أمة متقدمة.    

وإن شئت المستقبل البعيد استعملت سوف: مثال. سوف نصبح أمة متقدمة.

وقس على هذا.

توقفت الأمطار وهدأت الرياح، ثم نزل الظلام فأضيئت الشوارع والمقاهي والعمارات وبواخر الميناء. انسحب عمال السكة الحديدية والصياد العجوز، وأعلنت مذيعة التلفزيون عن برنامج الليلة. غادر معظم الرواد المقهى يخاصرون فتياتهم الصغيرات. انشغل النادل بتنظيف الطاولات وجمع الكؤوس وإفراغ المنافض. كاد أن يسأله لكنه لم يفعل.

     

 

 

 

 فهرس المجموعة القصصية

 

 

باب  إدريس الصغير

باب  محمد سعيد الريحاني

رجل، ورقة... وأحلام

في رحاب التقنية

في مقهى على ضفة نهر

هل قرأت يوما عن الأشباح؟

طريق الأحلام

الضياع

نومانز لاند / NO-MAN'S-LAND

فظاظة القبائل البعيدة

حقول الأقحوان وشقائق النعمان

الاسم "عاطل" والمهنة "بدون"

صانع الأحلام

الذي كان حرا

 أحلام طاميزودا

أحلام الظهيرة

 

 

 

خريطة الموقع

 

 

روايات

بَيَانَاتُ أدبية

"الحاءات الثلاث" مضامين الغد

مجاميع قصصية على الخط

 حِوَارَاتٌ مع الرَّيْحَاني

 حِوَارَاتٌ من الشرق والغربٌ

مجاميع قصصية مشتركة

درَاسَات سِيميَائِيَةُ للأسماء

دِفَاعًا عَنِ الْقِرَاءَةِ

السيرَةُ الذَّاتِيَةُ

المَكْتَبَةُ الإِلكْتْرُونِيَةُ

رهانات الأغنية العربية

ENGLISH

FRANCAIS

الصفحة الرئيسية

 

 

 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف

 

ALL RIGHTS RESERVED

 

 e-mail : saidraihani@hotmail.com

 

 

   <title>http://www.raihanyat.com/arabicversion-shortstory7-index.htm</title>

<meta name="description" content="حوار جيلين، مجموعة قصصية مشتركة بين محمد سعيد الريحاني وإدريس الصغير

<meta name="keywords" content=" أضمومة، مجموعة قصصية مشتركة">