رَيْحَانِيَاتٌ

                                                           

 

Description : Description : driss_seghir.pngDescription : Description : at_desk_prime

 

 

 

الحاءات الثلاث

أعمال مشتركة

المدرسة الحائية

مجاميع قصصية

لقاءات مع مبدعين

روايات

 لقاءات مع الريحاني

بَيَانَاتُ أدبية

دِفَاعًا عَنِ الْقِرَاءَةِ

مَقَالاتُ متخصصةُ

مترجمات ْ

قصص قصيرة جدا

درَاسَاتُ إسمية

المَكْتَبَةُ الإلكترونية

الأغنية العربية

السيرَةُ الذَّاتِيَةُ

أدب الطفل

الألبوم المفتوحُ

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

القاص والروائي المغربي إدريس الصغير:

 

 

 

"لم أقل كل شيء، مازالت في النفس خبايا،

وفي ركن الذاكرة صورة للمآسي والتعسفات والاعتداءات"

 

 

أجرى الحوار:  محمد سعيد الريحاني

 

 

 

 

محمد سعيد الريحاني: إنتاج النصوص يحتاج إلى ترويج نقدي وبالخصوص ترويج الكاتب نفسه لما كتبه في ما يعرف في الوسط الأدبي بـ «الشهادات الأدبية» أو ما يعرف في الأوساط الصحفية بـ«الحوار الأدبي» لماذا يكتفي ادريس الصغير بإنتاج النصوص دون العمل على الترويج لها؟

 

إدريس الصغير:ذلك رهان أخذته على نفسي منذ بدأت النشر سنة 1966. أبعد بالنص الذي أرغب في نشره إلى المنبر الذي أختاره، دون أن أرفقه، بأية كلمة أو رسالة أو توصية (لست قليل الأدب، أو جاهلا بآداب التراسل أو غير لبق أو متعجرف، لكنني أريد أن يتعامل صاحب المنبر أو رئيس التحرير، مع النص، وليس مع كاتبه).

 

   هكذا دأبت على هذا السلوك، وأنا أخطو خطواتي الأولى، في نشر ما أكتبه. كانت المنابر قليلة جدا. وكان بها «عسَسٌ وشرطة ثقافة ودرك وجمارك وماشئت من سدود ومتاريس وأسلاك شائكة، يوقفون من يشاؤون، ويسمحون لمن يحبون بالمرور، بناء على الحزبية والشللية والوساطات... الخ. لم تكن المنابر آنذاك تصاحب كتاباتنا بصورنا الفتوغرافية، وبالتالي لم يكن يعرفني أحد سوى بالإسم. زاد من ذلك عدم انتمائي لأي حزب سياسي أو جمعية ثقافية، عدا كوني كنت لاعبا لكرة القدم. وهكذا كان المثقفون يجهلون أن ألعب الكرة، وكان الرياضيون يجهلون أني أنشر قصصا».

 

   ولجت الساحة الثقافية شابا غِرّا بحمولة مثالية، جعلتني أتخيل أنني سأنعم بالرقي وسط ثلة من الأصفياء، غير أنني وجدت نفسي محاطا بالشياطين. تأملت مليا في هذا الوضع الشاذ، وفي يوم رائق قلت لنفسي أنت إنسان مغمور، ولن تخسر شيئا سوى أغلالك. وضعت مخطوطة قصة قصيرة، في ظرف أصفر كتبت عليه عنوان مجلة «الآداب» البيروتية، باسم سهيل ادريس، فنشرت للتو دون أن أستجدي الرجل، أو حتى أبعث له بتحية وسلام. هكذا كانت انطلاقتي بعيدا عن بلدي. وظللت على ذلك الحال مع جميع المنابر التي نشرت بها، فبعد مجلة الآداب لم أعد في حاجة إلى تزكية من أحد. في سنة 1976 أي بعد عشر سنوات من نشر أول عمل، طبعت مجموعة قصصية مشتركة مع المرحوم عبد الرحيم مودن، على نفقتنا الخاصة تحت عنوان: «اللعنة والكلمات الزرقاء».

 

كان محمد زفزاف رحمه الله «ابن مدينتي، وزميلي في الدراسة بثانوية التقدم، في مدينة القنيطرة» يدعوني دوما صحبة المرحوم عبد الرحيم مودن لننتمي إلى اتحاد كتاب المغرب، غير أننا كنا نرفض، لأننا لم نكن نرى أي جدوى من ذلك، وحده، المرحوم مبارك الدريبي شارك في المؤتمر الرابع للاتحاد، وعاد منه محبطا، ولم يحضر بعد ذلك غيره، إلى أن فارق الحياة. لكن الشاعر محمد بنيس سيقنعنا سنة 1976 بالانتماء للاتحاد لنشارك في المؤتمر الخامس، ولنكتشف العجب العجاب...

 

هكذا سأظل متمسكا بأنني، مبتعدا عن الشللية، والنميمة التي كانت مرضا ينخر في جسم الحركة الثقافية المنخور أصلا.

 

كل الذين كتبوا عن أعمالي، لم أتشرف أبدا بالتعرف عليهم شخصيا، وكانوا في الغالب الأغلب من المشارقة، وليس من المغاربة.

 

لا أريد أن يعرج بي الحديث لطرح قضية النقد، لذلك أفضل أن أبقى في إطار الترويج.

 

لم يحدث عن أقمت حفل توقيع لإصدار من إصداراتي. أنَفَتي تمنعني من ذلك، سأبدو وأنا أجلس إلى طاولة تتكدس فوقها النسخ، كبائع الحلوى أمام المدارس، أو في ملاعب الكرة، من بعته نسخة أخجل من أن ألتقي به في المحلات العامة. أخال أنه بينه وبين نفسه، أو حتى في العلن يقول: «لقد باعني هذا الكاتب شيئا تافها...».

 

أعجبت كثيرا بالكاتب سالنجر الذي زهد في الشهرة والمال الغزير، وارتمى في أحضان من يحب وما يحب، بعيدا عن أضواء دور النشر واستديوهات هوليود، أتمنى أن ألقي كل شيء ورائي دون ندم لأسعد فقط في حضن دافئ، ينسيني كل هذا العناء والإحباط الذي تغرق فيه الساحة الثقافية. الترويج النقدي الذي يطرحه سؤالك، يتم في ساحتنا الثقافية بواسطة استغلال النفوذ، فهنالك الطلبة الذين يروجون أعمال أساتذتهم، وهناك المتحزبون الذين يتعاملون مع الترويج بمنطق الانتخابات – إن كان لها منطق- أو على الأقل بمنطق الإشهار، الذي يغريك باقتناء منتوج لقد لا تجد فيه المواصفات المعلن عنها... الخ كل هذا بالمقابل، إنه ترويج نفعي، لا يركب أي رهان لإشاعة الجودة.

 

أشكر الكاتبة المبدعة الرائعة، زهرة زيراوي، التي قدمت في حقي شهادة لا أنساها أبدا، مفادها أنني فرضت نفسي في الساحة الثقافية بواسطة النص ولا شيء غير النص.

 

كلامي هذا، يخصني وحدي، ولا أفرض شيئا على أحد، كما أنني لا أستهجن شيئا، أعزف عن القيام به. فالترويج ضرورة العصر الحالي، وتستخدم فيه اليوم آخر الصيحات في عالم التواصل، لكن مزاجي، وما نشأت عليه يفرض علي أن أفكر بالشكل الذي طرحته.

 

لقد قمت بالترويج أنا والمرحوم عبد الرحيم مودن، لعملنا المشترك «اللعنة والكلمات الزرقاء» بواسطة ما كان يسمى في سبعينات القرن الماضي: «البيع النضالي» لثلاثة آلاف نسخة، تجند فيها معنا الطلبة، في جل مدن المغرب وقراه، كذلك الجمعيات الثقافية، إضافة إلى الإخوة الكتاب الذين كانوا يُمكنوننا من كتبهم، مقابل نسخ كتبنا، بتضامن ساد فترة شبابنا. هكذا نفذت كل النسخ في وقت وجيز.

 

أما المجموعة القصصية التي نشرتها باشتراك مع الكاتب محمد سعيد الريحاني، فقد اخترت لها ترويجا مخالفا، إذ حملت مئة نسخة من المجموعة القصصية «حوار جيلين» إلى القاهرة، وقدمتها هدية لمجلة «إبداع» المصرية يدا بيد إلى الصديق العزيز عبد المعطي حجازي، والأخ العزيز حسن طلب، لتسلم نسخها إلى الكتاب الذين يزورون مقر إدارة المجلة، وهذا ترويج يرضي مزاجي وذهنيتي التي لا يرضيها أن تحرج في موقف أتخيله محرجا.

 

محمد سعيد الريحاني: بدأت الكتابة في الستينات من القرن العشرين مع ثلة من الكتاب الذين يعتبرون اليوم روادا في السرد المغربي القصير والطويل. كيف تفسر خروجك عن النوعية التي ظهرت معها وجايلتها وعشت بعد رحيلها؟ هل هو إقصاء من قبل النقاد أم هو فعل مؤسسة من المؤسسات الفاعلة، حين يتعلق الأمر بالإقصاء والإبعاد والتهميش والقتل الرمزي؟  

 

إدريس الصغير:الطريقة التي دخلت بها إلى عالم النشر، والسلوك الذي كنت أتبعه في التعامل مع المنابر الثقافية «في أغلب الأحيان كنت أرسل المسودة، فلم تكن لي آنذاك أية وسلة للرقن أو النسخ» إضافة إلى تركيزي على قيمة الاعتقال السياسي، جعلت المنابر تتوجس مني، فقد علمت فيما بعد أنه أشيع بأن تلك القصص، تُبعث من معتقل، إنها سنوات الرصاص التي يتحدث الآن عنها، حتى من لم يعش رعبها.

 

وبالمناسبة أحكي لك طرفة، وقعت لي، كنت في طريقي إلى مقر عملي، ومررت بكشك، اشتريت منه مجلة شرقية، كان من ضمن موادها قصة قصيرة لي. وفي الحافلة جلس بالقرب مني زميل لي في العمل، ولما رأى المجلة بين يدي طلب مني تصفحها، وبينما هو منهمك في تقليب الأوراق، توقف عند قصتي ثم لكزني قائلا وهو يضحك:

 

- هذا كاتب يحمل نفس اسمك.

 

وبعفوية صاحبتني طيلة حياتي أجبته:

 

- إنه أنا.

 

فطوى المجلة وأعادها لي، ومازالت الضحكة تشرق في وجهه.

 

وحين سألته:                 

 

- أليس من المحتمل أن أكون أنا ؟

 

أجاب بيقين:

 

- إنه كاتب مصري.

 

الغربة التي عشتها وأعيشها لحد الآن في وطني، غربة شاذة ونادرة. إنها إفضع من الاستيلاب بالمفهوم الماركسي. لقد كان كولن ويلسن معروفا في العالم أجمع، غير أن الإنجليز، لم يكونوا عابئين به. كذلك رولان بارت الذي يتردد اسمه كثيرا في المغرب، لا يتعامل معه الفرنسيون نفس الثقل. لكن الأمر في المغرب مختلف تماما. فالحزبية والعشائرية طاغية، على كل شيء في هذا البلد العجيب، ناس يمجدون نصوصا لم يقرؤوها، يتمسحون بأذيال أساتذتهم في الكليات، ووزراء، ينبطحون لهم من أجل سفرية أو طبع كتاب، حتى إذا تقاعد الأساتذة، وانتهى الاستوزار، قلبوا لأسيادهم ظهر المجن، إنه النفاق بعينه. كل شيء مزور في هذا البلد.

 

لكن الحضوة التي نلتها خارج بلدي باستحقاق، عوضتني عما لحقني من غبن داخل وطني.

 

حادثة أخرى لي فيها شاهدان أطال الله عمرهما، كان لي موعد مع الكاتب الأنيق الرائع عبد النبي دشين في مقهى موريطانيا بمدينة الدار البيضاء وفي انتظار حضوري، مضى يتجول بين رفوف الكتب في دار الثقافة، فسمع صوت امرأة خالها من خلال لكنتها لبنانية أو سورية، تسأل عن مؤلفات كات مغربي اسمه ادريس الصغير، أخبرها القيم على المكتبة بأن نسخ أعماله غير متوفرة الآن غير أنها قد تتوفر مستقبلا، انبرى عبد النبي للإثنين، وسأل السيدة إن كانت ترغب في لقاء الكاتب نفسه إذ له معه موعد، لم تصدق السيدة الأمر.

 

وهكذا حين حضرت إلى المقهى، سأجد العزيز عبد النبي دشين صحبة المستعربة لوس، التي أخبرتنا بأنها حضرت إلى المغرب عدة مرات وكانت تسأل عني حتى في اتحاد كتاب المغرب لتخبر بأنهم لا يتوفرون على عنواني، ولا يعرفون أين أقيم. قلت لها بأنني رأيتها في بغداد أثناء انعقاد مهرجان المربد، تفاجأت وقالت: وهل كنت هناك؟ لقد سألتهم، لكنهم أخبروني بأنك لم تحضر. حضر بعد ذلك الأخ عبد الحميد الغرباوي، شاركنا في الحديث واستغرب السيدة لوس الإسبانية أن يأتي مثل هذا العمل مِمَّن كانت تتوسم فيهم النبل الثقافي، والرفعة الأدبية وأخبرتنا أنهم سلموها أعمالهم دون غيرها، راجين منها ترجمتها والكتابة عنها، فما كان من عبد الحميد الغرباوي إلا أن أخذنا جميعا إلى بيته وفتح للسيدة مكتبته، وسلمها أعمال كتبها مغاربة، دون انتقائية. إنني أقدر هذين الشخصين الأديبين، اللذين شهدا معي مظهرا من مظاهر القذارة والعهر في حياتنا الثقافية النتنة. بعد ذلك سألتقي عدة مرات بلوس في بغداد، لتحكي لي أشياء أتحفظ الآن في سردها. هل أحدث عن إخفاء الدعوات عني وتمزيقها؟ هل أحدثك عن التزوير والمتاريس التي نصبت لي تجاوزات؟ هل أحدثك عن الأسماء الكثيرة التي وأدوها في المهد؟ هل أفعل ما فعله الكاتب المصري المرحوم سليمان فياض فأكتب مثل كتابه «كتاب النميمة» الذي صنف فيه الكتاب الأخيار والكتاب الأشرار. مَرَّ رئيس في اتحاد كتاب المغرب كان يتوهم نفسه فرعون زمانه، أقام لي محاكمة تافهة تشي بمرضه العقلي، وتطلعه لامتلاك السلطة التي لم يبلغها ولن يبلغها أبدا. لقد عشت حرا طيلة حياتي، لم أبحث كغيري عن شهادات أو مناصب أو شفاعات. كنت مبدعا وسأظل مبدعا إلى أن يغيبني القبر. هنالك أناس أجرموا في حق الثقافة المغربية، ومن حق جيلكم أن يعرفهم أو على الأقل أن يعرف بعض ما حدث، لن يملك أحد بعد اليوم أن ينصب نفسه، شرطيا أو دركيا أو جمركيا في الساحة الثقافية. اليوم تتوفرون على إمكانيات هائلة للنشر والانتشار، دون مِنَّة من أحد أنشأت «رابطة القصة القصيرة المغربية الجديدة» وكانت أول رابطة على الإطلاق، كل الذين تحمسوا لإنشائها بل طالبوا بذلك تراجعوا عن الانخراط فيها، عدا الكاتب المبدع حسن البقالي الذي كان الوحيد المنتمي بأدائه الانخراط المادي عبر البريد، ليزعم أمين مال الرابطة أنه لم يتوصل به ورغم ذلك قدمت الرابطة أنشطة نوعية راقية بإمكانياتي الذاتية واستضافتني السيدة فاطمة التواتي، لأقدم لها لأول مرة في برنامجها الثقافي الأدبي المرحوم مبارك الدريبي... لكن الرابطة ستنفجر من الداخل. إنهم خبراء يا أخي في النسف، حتى قبل شيوع السيارات المفخخة.

 

أتساءل الآن إن كان علي أن أتوقف عن إفشاء ما شاهدته وعشته، خلال نصف قرن من حياتي في أتون هذا الجحيم المحرق.

 

أقول فقط لهؤلاء، ها أنذا مازلت أكتب وسأنشر أعمالي كالعادة، دون وسيط لكنني لن أغمط نفسي حقها، في كل ما يتيحه لي القانون دون مِنة. لقد كانوا ساديين، إذ سيستغرب جيلكم حين يعلم أن الجرائد الحزبية، لم تكن تنشر نعي كاتب لا ينتمي للحزب، وهكذا تقرأ نعي كاتب في جريدة دون أخرى إن كان متحزبا، أما غير المتحزب فلا نعي له إطلاقا.

 

محمد سعيد الريحاني: أن يبدأ المرء بكتابة القصة القصية في الستينيات من القرن العشرين، ويستميت في الانتساب إليها والتعبير بها يمكن قبوله في أي بلد يتمتع بتقاليد راسخة في مجال القصة القصيرة، لكن في حالة المغرب حيث عدد المجاميع القصصية الصادرة حتى ذلك الحين لم تتجاوز أصابع اليد الواحدة، فالأمر مثير للاهتمام. فبمن تأثرت؟ ولماذا اخترت القصة القصيرة للتعبير عن همومك الإبداعية؟

 

إدريس الصغير: إنه الحب الأول، «وما الحب إلا للحبيب الأول» بل هو الافتنان والعشق وماشئت من مترادفات تتباين في درجة عمقها، لتجد أن لا أحد منها يشفي غليلك في التعبير عن هذه العاطفة الحادة، التي يختلج بها الوجدان coup de foudre «الحب من النظرة الأولى» كانت 1956 سنة متميزة فارقة في تاريخ المغرب الحديث والمعاصر، حين أعلن عن استقلال المغرب. تصور الجميع أننا شرعنا فعلا في بناء دولة حديثة تحكم نفسها بنفسها، مُوَدِّعة عهد الحماية الفرنسية إلى غير رجعة. هكذا بعد الكُتاب، وحفظ القرآن الكريم دخلت المدرسة الابتدائية، لأجدني وسط محيط تربوي لا يهتم بتلقين دروس القراءة والكتابة فحسب، بل يشفع ذلك بأنشطة موازية في الرياضة والمطالعة الحرة والرحلات والخرجات... الخ. وجدت مكتبة المدرسة، ومكتبة الفصل ومكتبة المنزل والمكتبات العامة في مدينتي الجميلة آنذاك. استهوتنا كجيل الاستقلال المطالعة بشكل كبير، نتبادل الكتب والمجلات والمطبوعات في كل المجالات... النهم يزداد ولذة القراءة لا تعد لها لذة، كنت أقتني المجلة فأسارع بقراءة قصة العدد، كنت قد ابتليت سابقا بكتابات كامل كيلاني ومحمد عطية الأبراشي ومحمد سعيد العريان، وكل ما تتلقفه اليد أو ما ينصح به المعلمون من مطبوعات بالعربية والفرنسية، سيطول بنا الحديث لو استعرضت أسماء الكتاب الذين قرأت لهم منذ القسم الابتدائي: يوسف السباعي – إحسان عبد القدوس – سميرة بنت الجزيرة العربية – جبران خليل جبران – طه حسين – توفيق الحكيم، قراءات في كل المجالات قصص بوليسية مشوقة، أرسين لوبين، مغامرات جونسن، قصص أغاتا كريستي وإدغارولاس... الخ. روايات جرجي زيدان، لم نستثن حتى الكتب الصفراء والمجلات المصورة، كانت القنيطرة تعج بالكتب والمجلات والمطبوعات بالعربية والفرنسية والإنجليزية، القاعدة الجوية الأمريكية توزع بسخاء وفي طبعات أنيقة أجود ما تلفظه مطابع أمريكا وقطار الشحن المتجه من الميناء نحو معمل الورق والكارطون CMCP يمكنك من إشباع نهمك للمطالعة، بما تستطيع يدك من حمله في غفلة من سائقه قبل دخول أطنان الكتب والمجلات... إلى مطحنة المعمل.

 

محمد سعيد الريحاني: بدأت بكتابة القصة القصيرة (مجموعة «اللعنة والكلمات الزرقاء» عام 1976)، ثم انتقلت إلى الرواية «الزمن المقيت» عام 1983. فما هي مبررات هذا الانتقال من القصرإلى الطول، من العادي إلى الملحمي، من الركض إلى التجوال، من القلق إلى التأمل؟

 

إدريس الصغير: حبي الأول والأخير للقصة القصيرة، ذلك الفن الصعب الجميل الفاتن. قد تتحقق هذه الصفات في أجناس إبداعية أخرى، لكن تحققها في المحبوبة لا يماثله شيء. كتبت كذلك الرواية والمسرحية، كما كتبت السيناريو للسينما والأعمدة الصحافية، كما كنت مراسلا أدبيا لعدة مجلات، أهمها آفاق عربية والأقلام الصادرتان في بغداد والمسيرة الصادرة في باريس، كما اشتغلت رئيس تحرير مجلة «أشكال» الأدبية، وجريدة «الغرب» الجهوية.

 

   أذكر هذا فقط لأشير إلى أنني نوَّعت مجالات كتاباتي، وبالتالي فأنا لم أنتقل من جنس أدبي أدنى لجنس أدبي أعلى، ولا ارتقيت من نفس قصير إلى نفس طويل، كما هو مشاع خطأ بين الكثير من القراء والنقاد.

 

القصة القصيرة والرواية جنسان أدبيان مختلفان عن بعضهما، كل الاختلاف ولا يجمع بينهما سوى انتمائهما للسرد.

 

أفهم سؤالك جيدا، وأتفق معك على بعض خصوصيات جنس القصة القصيرة، وجنس الرواية. غير أنني لا أذكر على وجه التحديد كيف ومتى كتبت رواية الزمن المقيت. كنت قد قضيت شهرا كاملا في صيف 1980 بمدينة أزمور، وهنالك كنت أستيقظ صباحا لأفطر في المقهى، ثم أشرع في الكتابة إلى ما بعد الزوال، ودأبت على نفس السلوك حين عودتي إلى القنيطرة إلى أن أنهيت كتابة رواية لأول مرة أسميتها «الزمن المقيت» طلبت من المرحوم محمد زفزاف كتابة مقدمة لها، وتطوع المرحوم محمد الطوبي لإعادة نسخها بخطه الجميل، لأبعث بها إلى المؤسسة العربية للدراسات والنشر عبر البريد. هكذا بكل بساطة بدأت رحلتي مع جنس الرواية التي صدرت سنة 1983 وهي سنة لم تصدر فيها سوى ثماني روايات لكتاب مغاربة داخل الوطن وخارجه.

 

أريد فقط أن أعبر عما يعتمل بداخلي بصدق فني وتقنية عالية، هذا هو رهاني. العملية الإبداعية صعبة ومضنية، واسْتِسْهالها هو أول الطريق نحو الإسفاف. أعتبر العمل الفني والإبداع الكتابي على وجه الخصوص، فسيفساء لا يتقنها سوى مبدع ماهر، كل مفردة يجب أن تحتل مكانها في التركيب دون زيادة أو نقصان. الثرثرة خطيئة في الأعمال السردية، كذلك العَيّ الذي يبْتسِر الحكي يُخلف الملل عند المتلقي، والملل عدو الإبداع الجيد.

 

القصة القصيرة اقتناص للحظة من تراكم الأحداث في مسيرة الحياة الهادرة، إنها جرعة ماء مسروقة من شلال صاخب، أما الرواية فهي الشلال نفسه لا علاقة لما أقوله بقضية الطول والقصر، وعدد الصفحات أو تعدد الفصول بل الحكمة في الإيحاءات. ليس القارئ بليدا بل هو أكثر منا ذكاء. لا يجب أن نصعد ناطحة سحاب، لننظر إلى المدينة وسكانها بالمنظار، بل الكاتب والقارئ منغمسان وسط الحدث يكتويان بناره، ويكتبان معا رواية. لا تفرج على الحدث من الطرفين المشاركة هي فعل الرواية.

 

محمد سعيد الريحاني: التوجه السائد للأدباء العرب عبر التاريخ هو أن الإبداع «نزعة فردية في التعبير» باسم الإلمام. فباستثناء أدب المراسلات الذي مازال هو أيضا محدودا في ثقافتنا، كنت من بين الأوائل في الكتابة المشتركة على مستوى الرواية والقصة القصيرة، منذ صدور مجموعتك القصصية «اللعنة والكلمات الزرقاء» بالاشتراك مع عبد الرحيم مودن سنة 1976 حتى اليوم. فما هو تصورك لأدب الكتابة المشتركة؟

 

إدريس الصغير:الكتابة على العموم، عمل فردي بل أكثر من ذلك أنني لا أكتب لأحد، بل أكتب لنفسي وحين أنشر ما أكتبه فإنني أسعى أن يشاركني المتعة، المماثلون لي قناعة وذوقا ورؤى... الخ، وكذلك أسعى إلى استقطاب آخرين أقنعهم بالانضمام إلينا.

 

في الكثير من الحركات الإبداعية، في العالم، وعلى مر العصور ظهر مفهوم الجماعة «تلتقي حول قناعات فنية وإيديولوجية.... الخ. تنتج إبداعا وتنظر له وتنشر ما ينفست، لتخلق حركية في الساحة الثقافية». لم نر مثل هذا عندنا، وحتى حين حاولت ذلك بواسطة منبر ثقافي، أو جمعية إشعاعية، فشلت فشلا كبيرا. لذلك أصدرت أعمالا مشتركة بهذا المفهوم منها المجموعة القصصية «اللعنة والكلمات الزرقاء» مع كاتب من جيلي، ينتمي لنفس الحساسية التي أنتمي إليها، وبيننا قواسم مشتركة لا حصر لها. بعدها عمل روائي مع عبد الحميد الغرباوي «ميناء الحظ الأخير» وهو كاتب من الجيل الموالي بجيلي مباشرة، ثم مجموعة «حوار جيلين» مع الكاتب محمد سعيد الريحاني الذي ينتمي إلى الجيل الحالي، الذي إن تحدثنا عن التراتبية الأسرية، يعتبر حفيدا لي. كما أنني كتبت سيناريوهين للسينما بالاشتراك مع المرحوم مصطفى عبد الله، الكاتب العراقي المعروف. لكن وفاته المفاجئة وأدت العملين في المهد.

 

سنوات عملي في المسرح كانت مشتركة، إذ المسرح أب الفنون وهو أصلا فن مشترك.

 

أنا رجل اجتماعي، أحب الحوار، ومعرفة الناس لا أحتمل أن أكتم أسراري أو أن أنافق في ادعاء قناعة فنية أو عقائدية أو جمالية لا أومن بها. إن انفتاحي على الآخر يجعلني مستعدا لإنجاز أعمال مشتركة. وقد سعدت بكل الأعمال المشتركة التي أسهمت فيها، والساحة الثقافية الصابرة المتصابرة كفيلة بإصدار حكم فيها، لكنها تظل إسهاما هاما في الدفع بحركتنا الإبداعية نحو الجودة المنشودة.

 

محمد سعيد الريحاني: خضت مغامرة الكتابة في أغلب الأنواع الأدبية السردية، واحتفظت لنفسك بحي النأي بالنفس عن مجال القصة القصيرة جدا. لماذا يحرص جيل الستينات والسبعينيات على بقاء المسافة بينه وبين القصة القصيرة جدا، كبيرة ؟

 

إدريس الصغير: قد لا أكون مؤهلا لكتابة هذا الجنس الأدبي، كما أنني غير مؤهل للغناء أو التمثيل أو ممارسة الملاكمة. لم أقرأ كثيرا من النماذج في هذا الشأن، ثم إنني لا أدري أن كنت أمام حِكَم أو مناجاة أو خواطر أو أحاجي أو ألغاز أو...

«عندما استيقظت، كان الديناصور مازال هناك».

 

انتشر هذا الجنس الأدبي عبر الفيسبوك، حتى أنه أصبح من الصعب متابعة الإنتاج فيه بشكل منتظم، لكن المفزع والمخيف هو التعليقات التي تصاحب عملية النشر، والتي تنهال على الكاتب التمجيد والثناء والاستحسان والإعجاب، حتى ليحسبن نفسه عبقريا توحى إليه الحكمة من السماء.

 

أتمنى أن أقرأ أشياء تشدني إلى هذا الجنس، حتى دون أن أجرب الكتابة فيه فأنا من الناس الذين يؤمنون بالحرية المطلقة، بحثا عن الجودة ودليلي على أنني لا أستهجن هذا الجنس ولا أرفضه، أنني كتبت تقديما لمجموعة قصصيتين أصدرتها الكاتبة نجاة الكاضي، تشجعت على فعل ذلك لأنني نسجت وحدة من مجموعة القصص القصيرة جدا ساعدتني على التذوق.

 

محمد سعيد الريحاني: في عز رواج سلسلة كتب هاري بوتر للكاتبة ج ك رولينغ وصلت مبيعاتها مجتمعة إلى مئات الملايين من النسخ. أصدر تزفيتان تودوروف عام 2007 كتابه «الأدب في خطر» هل ترى الأدب في ازدهار أم في خطر؟

 

إدريس الصغير:في أمم أخرى، وعلى مراحل متعددة من تاريخ الطبع والنشر والتوزيع حدث ويحدث أن تنفد نسخ الطبعة الأولى من العمل الناجح في نفس يوم نزولها إلى الأسواق، وكثيرا ما كان الناس يقفون في طوابير طويلة منذ الساعات الأولى من الصباح، عسى أن يظفروا بنسخة من كتاب يتلهفون لقراءته، وكم حدث أن تكسرت واجهات المكتبات الزجاجية من أثر الزحام. الأمر عندنا مختلف تماما، لا يحدث الزحام على المكتبات سوى في الدخول المدرسي، الزحام عندنا في وسائل النقل وملاعب الكرة ومحلات القَصْف. إننا أمة لا تقرأ، ولن تقرأ أبدا.

 

   هل الأدب في خطر؟

 

   ليس الأدب فحسب، كل شيء أصبح عندنا في خطر! القيم والأخلاق والصداقة والذوق الفني والحرية والأديان والطبيعة... الخ. نحن خطر حتى على أنفسنا.

 

أقرأ اليوم كتابات، ما أنزل الله بها من سلطان، بأخطائها اللغوية والإملائية ورداءتها غير المسبوقة.

 

محمد سعيد الريحاني:بعد توقف طويل، دام قرابة ثلاثة عشر عاما منذ صدور المجموعة القصصية «معالي الوزير» عام 1999 حتى صدور المجموعة القصصية «حوار جيلين» المشتركة مع محمد سعيد الريحاني عام 2011 عدت للكتابة بنفس طويل يعاكس التوقعات: الكتابة الروائية. فما الذي يميز إدريس الألفية الثالثة، عن إدريس الألفية الثانية؟  

 

إدريس الصغير: إنه الإحباط يا عزيزي. حياتي كلها انتكاسات، حين قررت منذ بداياتي الأولى في الكتابة، أيام كنت تلميذا شغوفا بدراسة الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع، أن أنظر إلى العلاقات البشرية بعين ميكروسكوبية، كانت النتيجة وَبَالا عَليّ. ظننت أنني كلما تمعنت في السلوك البشري، أستطيع أن أكتب أحسن، غير أنني حين تمَليت في دقائق الدقائق، أصابني الرعب من هذا الكائن الذي اسمه الإنسان. فكان لابد أن أتوقف بشكل نهائي عن الكتابة لكنني أعود إليها لثالث مرة بسبب عمل مشترك، حدث ذلك سنة 1976 حين اقترح علي المرحوم عبد الرحيم مودن أن نطبع مجموعة قصصية مشتركة. هو الذي أعادني للكتابة كنت أنشر خارج وطني، وكنت حزينا لأنني كنت أفضل أن يكون قارئي الأول مغربيا، رغم ما في النشر في منابر الشرق من ذيوع وشهرة. لكن الإحباط سيعاودني، نظرا لأن المناخ الثقافي في بلدي قاتل، كنت قد بدأت الاشتغال في عمل روائي، سرعان ما ألقيت به جانبا غير مكتمل. وفي يوم وأنا في مقهى موريطانيا في مدينة الدار البيضاء حدثني الصديق عبد الحميد الغرباوي عن نص روائي توقف عن إكماله بعد أن بدأه، واقترح علي أن أطلع عليه لأرى إن كان بالإمكان جعله عملا مشتركا، لم أتردد أبدا وهكذا عودتي الثانية إلى الكتابة برواية مشتركة عنوانها «ميناء الحظ الأخير» لكنني سأتوقف للمرة الثالثة يائسا من إصلاح وضع المناخ الثقافي المغربي، منكفئا على نفسي. إلى أن اقترح علي الكاتب محمد سعيد الريحاني أن نطبع مجموعة قصصية مشتركة تحت عنوان «حوار جيلين» أعادني صدورها إلى الكتابة بعد الانقطاع الثالث. إنني مدين لهؤلاء الثلاثة بإرجاعي إلى العالم الذي يستهويني أكثر من غيره، لكنني فعلا اشتغلت على روايات بدل القصة القصيرة، ذلك أنني ربما أستدرك ما فاتني، في سنوات التوقف. مازلت أنشر قصصا قصيرة لكن خارج المغرب، ولو تمكنت من جمعها لأصدرتها في كتاب، غير أن الإحباط يعاودني. أنا لست راض عن الألفية الثالثة أدبيا، الألفية الثانية أفضل منها بكثير.

 

محمد سعيد الريحاني:عايشت تقريبا كل أجيال الإبداع والنقد القصصيين. كيف تقيم التجربتين معا على المستوى الوطني «المغربي» تجربة الكتابة القصصية منذ بداياتها الأولى، وتجربة النقد المواكب لها. وما الذي يحكم كل واحدة منها: الاستمرارية والثبات أم التطور الخلاق؟ وما الذي يحكم علاقتهما ببعضهما البعض: التكامل أم التنافر؟

 

إدريس الصغير: عايشت فعلا كل الأجيال إبداعا ونقدا، حتى الذين لم أجايلهم قرأت لهم وعنهم. في المدرسة وفي الكلية، ثم بعد ذلك في قراءاتي الخاصة، تعرفت على الأدب المغربي منذ الفتح الإسلامي إلى الآن. ناهيك عن الثقافة العامة التي تفرض عليك تجاوز المحلية نحو العالمية. لكن لنحصر الحديث حول الكتابة القصصية والنقد في الخمسين سنة الأخيرة.

 

الرواد الأوائل كتبوا القصة القصيرة مخلصين إلى شكلها التقليدي، لقد استلهموا الشكل من المؤسسين، وقرؤوا لجي دي موبسان وتشيكوف ومحمد تيمور... الخ وكان المضمون أخلاقيا، أو مقاوما للمستعمر. لكن بعد استقلال المغرب، ظهرت هموم الذات في النص القصصي المغربي، الفرد في مواجهة صعوبات الحياة في مجتمع تجري بخطى وئيدة تسير شؤونه بذاته، وبيد أبناء جلدته. فكان لابد لهؤلاء القصاصين أن يضيقوا شيئا ما بالشكل التقليدي، ويبدؤوا في رسم منعطف هام ليجددوا التأسيس لقصة قصيرة مغربية جديدة. بوادر التحديث بدأت مع محمد زفزاف، وعبد الجبار السحيمي ومحمد بيدي وغيرهم كثير. سيأتي بعدهم جيلي «جيل السبعينيات» والتسمية هنا لا علاقة لها بالتحقيب الزمني، بل هي تسمية ذات دلالات إيديولوجية وفنية، تجعلنا في حمأة الحدث بدل أن نكون متفرجين عليه.

 

إنها فترة ما بعد الاستقلال، الجامعة المغربية بدأت تلفظ الدفعات الأولى من الخريجين، العاشقين للمناهج النقدية الحديثة. ستشهد الساحة الثقافية سجالات لا حصر لها في قضايا لا حصر لها، غير أن النقد المواكب للإبداع، كان انتقائيا، والانتقاء كان يتم مع الأسف، على أساس حزبي، لهذا فشل النقد في الكشف عن متعة النص، الذي هو الدور الحقيقي للنقد. كما أن كل ناقد «وهم بالأساس طلبة أو أساتذة لمادة النقد» تمسك بنظرية نقدية، وبِمُنظر يلوح باسمه في كل اللقاءات. لذلك خسرنا جميعا الاستمرارية والثبات والتطور الخلاق، ولم يفضل لنا سوى التنافر عوض التكامل حتى انتهينا اليوم إلى سماع أطروحات من الممكن أن تنطبق على أي نص.

 

محمد سعيد الريحاني: بعد هزيمة 1967 تحول الإبداع العربي إلى التجريب، وواكبه نقد يقيد إنتاج التجربة الفرنسية التي عرفت قبل العرب هزيمتها النكراء، على يد القوات النازية في الحرب العالمية الثانية، وبذلك صارت القصة القصيرة بتعبير عبد الله العروي، أفضل شكل تعبيري عن حال العرب كما صارت الانكسارات خاصيتها الأولى. كيف عايشتهم هذا الانتقال الذي خبره جيل الستينيات والسبعينيات عن قرب؟

 

إدريس الصغير:هزيمة 1967 وجدتني في السنة التاسعة عشرة من عمري، طالبا بكلية الآداب. كنت في سن وحساسية عقلية وتربوية وثقافية، جعلتني أتلقى جروحا داخلية عميقة، وإحباطا مُرّاً، مازال يلازمني إلى الآن بعد أن علمونا بأن إسرائيل مجرد دويلة يمكن إلقاؤها في البحر بيسر وفي وقت وجيز، الإعلام المصري حول في البداية الهزيمة إلى نصر بواسطة المذيع الشهير أحمد سعيد. لكننا في المغرب سنكون حتما الأوائل في العلم بالهزيمة وفداحتها بوصول الصور التي نشرتها مجلة « Paris Match » الفرنسية.

 

كان من الطبيعي أن يتخلخل كل شيء، وأن نستفيق من سُبات طال عهده وصم أسماع العالم شخيره. ستظهر كتابات جديدة، وأسماء ما كان لها أن تُعرف لولا ما حدث. طبعا كانت إرهاصات ذلك موجودة، سيظهر جيل السبعينيات، ليس في القصة القصيرة فحسب، بل في كل أجناس الإبداع ليغامر بشكل فني، يتجاوز مرحلة رتيبة في إبداعنا استكانت إلى المألوف الذي أصبح مع مرور الزمن مبتذلا.

 

محمد سعيد الريحاني:الجوائز الأدبية تقليد ثقافي نبيل يجسد مواكبة المؤسسات الثقافية للإنتاجات الفكرية والفنية والأدبية، لكن في السنوات الأخيرة بدأنا نقرأ عن فاعلين ثقافيين لا يلهثون فقط وراء الجوائز كما هو حال بعض «الكبار» بل هم يتعدون الأمر إلى «شراء» الجوائز ولجانها بأموال تفوق قيمة الجائزة ذاتها. كيف تُقَيم الأمر؟

 

إدريس الصغير:لم تكن الجوائز في يوم ما، مقياسا للجودة أو معايرا لقيمة الكاتب. إنها مجرد رأي لتشكيلة من أعضاء لجنة تحكيم، تفرض رأيها على بقية الخلق. وهنا تحضر الحزبية والشللية والرشاوى، وماشئت من مكر بشري دنيء قذر.

 

ليس الأمر جديدا عندنا، في المغرب جائزة واحدة وحيدة، تسلم من المال العام، باسم وزارة الثقافة، لم تكن في يوم ما نزيهة والفائز بها يكون معروفا مسبقا، حتى قبل أن يطبع عمله.

 

ولنا في هذا الشأن حجج دامغة، غير أن فضيحة هذه الدولة ليس لها مثيل. فإذا كان أمر لجنة الشعر قد انفضح من طرف أعضاء اللجنة أنفسهم، فإن ما حدث في لجنة السرد لا يعلمه أحد. فالأعمال المترشحة لم تقرأ أصلا.

 

محمد سعيد الريحاني:في الستينيات من القرن العشرين، كان الاتجاه السائد هو «الواقعية النقدية» كما ظهرت في فرنسا، في منتصف القرن التاسع عشر على يد ستندال وبلزاك وموبسان. ورغم أن العالم عرف بموازاة مع الواقعية النقدية عدة أنواع أخرى من الواقعية، كالواقعية الهستيرية والواقعية الفنطستيكية والواقعية السحرية. كيف تفسر هذه التبعية الثقافية والأدبية المغربية لفرنسا، المعمر السابق؟

 

إدريس الصغير:علاقتنا بالثقافة الفرنسية، مسلمة لا فكاك لنا منها لحد الآن، وفيها من الأمور الإيجابية، ما يمكننا من تطوير تجربتنا الإبداعية، الفرنسية هي اللغة الثانية في مناهجنا التربوية وقراءاتنا. علينا أن ننفتح على كل اللغات الحية. ركيزة جيلي لم تكن مقتصرة على الأدب الفرنسي، بل كل الآداب العالمية ولو عن طريق الترجمات. كنا في فترة المد الثوري، وكان للواقعية الاشتراكية حضور في قراءاتنا وقناعاتنا الفذية، سيطول الاستشهاد لو عمدت إلى ذكر أسماء الكتاب والمدارس الفنية التي عانقناها. لكن تأثيرا آخر كان أقوى في تجربة جيلي، وهو كتابة إخوة لنا في الشرق، لقد تتلمذنا عليهم بحكم السبق التاريخي، الذي يعلمه الجميع. لكننا كنا أولئك التلاميذ الذين استوعبوا تجربة الأستاذ، وهضموها ليصبحوا بدورهم أساتذة، يعملون جنبا لجنب، في الدفع بالجنس الأدبي لأفق أرحب.

 

محمد سعيد الريحاني:ما هي مشكلات الأدب المغربي: الإبداع أم النقد أم التنظير؟

 

إدريس الصغير:الأدب المغربي مشكلة كبرى، بإبداعه ونقده وتنظيره.

 

يهيمن فيه السياسي، أو لأقل الحزبي هيمنة كبرى، بالإضافة إلى العشائرية والزمالة والشللية. وبالتالي فإننا نضع العربة أمام الحصان، مما يجعل تحركنا مستحيلا. السياسي جزء من الثقافي، وليس العكس، وحين يتحكم الجزئي في العام يحدث الشلل.

 

محمد سعيد الريحاني:لمن تكتب؟ ومن هو قارؤك المفترض ؟

 

إدريس الصغير:أكتب لنفسي. لكن حين أنشر ما كتبته، فإنني أتوجه به بالتحديد إلى المماثلين لي «إذ لابد أن يكون لي مماثلون يقاسمونني نفس الذوق الفني ونفس الرؤى ونفس القناعات ولو كانوا قلة» ثم بعد ذلك أسعى لاستقطاب آخرين أحاول أن أستقطبهم، للانضمام إلي وإلى المماثلين لي.

أبحث عن قارئ يشاركني في أتون العملية الإبداعية، وينتج معي نصا ممتعا.

 

محمد سعيد الريحاني: لمن تقرأ من الأدباء حاليا؟

 

إدريس الصغير: أعيد قراءة كتب قديمة، لأكتشف أن الذين درسونا لم يكونوا، على مستوى علمي عال، كما كنا نحسب، سوى قلة قليلة منهم. سامحهم الله، لقد كانوا سلطة تجيز هذا وتسقط ذاك، ولم تكن الكلية، مختبرا للبحث العلمي، بل كانت كُتابا كبيرا للحفظ طيلة السنة الجامعية، ثم القيء في الامتحانات.

 

محمد سعيد الريحاني:كيف تتصور أدب الغد في المغرب؟

 

إدريس الصغير: الأمر لا يبشر بخير. المؤشرات التي نراها الآن تجعل المرء يفقد الأمل في كل شيء. الرداءة أصبحت هي القاعدة، انحطاط في الذوق الفني، تدني مستوى التعليم، جهل تام بقواعد اللغة العربية، وبقواعد الكتابة، ومفهوم الإبداع. إننا في وضعية غير مسبوقة، تغري باستسهال كل شيء من أجل لا شيء.

 

محمد سعيد الريحاني:إذا كان ضروريا قول كلمة مفتاح تنير قراءك لاستكشاف أو إعادة استكشاف عوالمك السردية، ماذا تقول؟

 

إدريس الصغير:أنا شخص أحبب القراءة، قبل الكتابة، نشأت في مدينة حديثة تشكلت في بداية القرن العشرين، بعد توقيع معاهدة الحماية من ست مئة أجنبي – معظمهم فرنسيون- ومن خمس مئة مغربي، وإبان الحرب العالمية الثانية سيحل بها الأمريكيون فكانت لهم بها قاعدة عسكرية. نشأت أذني على سماع موسيقى غربية، ارتدت كل مراقص المدينة، لعبت كرة القدم وعشقت السينما والمسرح. كنت مرشحا للهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية من طرف أساتذتي في الإنجليزية سنة 1966 السيدة «طروش سيكل» لولا استحالة حصولي على جواز السفر. هاجرت إلى ألمانيا سنة 1971، وأقمت بدنية شتوتكارت، ولما حصلت محاولة الانقلاب في الصخيرات ظننت أن الأمور سوف تتغير نحو الأحسن، فعدت لبلدي عزائي في الكتابة، أحرص على أن يكون النص ممتعا، يجذب القارئ نحوه يستهويه، وينفس عنه بعض الكرب.

 

لم أقل كل شيء، مازالت في النفس خبايا، وفي ركن الذاكرة صورة للمآسي والتعسفات والاعتداءات. 

 

 

 

 

العودة إلى صفحة حوارات من الشرق والغرب

 

 

 

خريطة الموقع

 

بَيَانَاتُ أدبية

أدب الطفل

"الحاءات الثلاث" مضامين الغد

روايات

 حِوَارَاتٌ مع الرَّيْحَاني

 حِوَارَاتٌ من الشرق والغربٌ

السيرَةُ الذَّاتِيَة

درَاسَات سِيميَائِيَةُ للأسماء

دِفَاعًا عَنِ الْقِرَاءَةِ

المَكْتَبَةُ الإِلكْتْرُونِيَةُ

مجاميع قصصية على الخط

رهانات الأغنية العربية

ENGLISH

FRANCAIS

الصفحة الرئيسية

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف

saidraihani@hotmail.com

Description : Description : ENOTE

<title>http://www.raihanyat.com/arabicversion-interviews-text1.htm</title>

<meta name="description" content=" interviewsavec l’écrivain Marocain Mohamed Saïd Raïhani, interviews led by Moroccan writer Mohamed Saïd Raïhani, حِوَارَاتٌ  مع محمد عز الدين التازي، محمد انقار، برهان الخطيب، نيلس هاو">

<meta name="keywords" content="entrevues, interviews, dialogue, dialog">

ع مبدعات ومبدعين من الشرق والغرب