أنطولوجيا الحرية

-مختارات من القصة المغربية الجديدة-

 

khaled_akal3i

 

"قررت أن تبقى حرا"

 

 

" الحريّة هي أن تكون حرّا ، أن تكون ذاتك في اللّحظة التي يستحيل عليك فيها أن تكون ذاتًا أخرى"

 

خالد أقلعي

 

قاص وروائي وباحث في التصوير السردي

 

من مواليد  11 فبراير 1965 مدينة تطوان، شمال المغرب

 

صدر له :

 

"دوائر مغلقة"، 1995

- مجموعة قصصية -

 

"أطياف البيت القديم" (درب الصوردو)،2007

- رواية -

 

"وجدان وأشلاء ودمى"، 2010

- مجموعة قصصية -

 

 

 

 

قرّرتَ، أخيرا، أن تصبح حرّا.     

                 

 أن تتحلّل من كلّ ما يقودك بتناغم ونعومة رتيبين في فلك محيطك الهادئ الوديع؛ كلّ ما يحول بينك و بين الانطلاق إلى حيث تمضي مخلوقاتُ جنسك،عارية؛على الفطرة،غير عابئة بسياط اللّوم وسهام الذمّ وجمار النّدم المتوهّج؛ معتوقة من أيّة التزامات ثقيلة الظلّ قد تبيح لساعة حقيرة في المعصم سلطة التهام بريق النظرات عند كلّ لحظة و حين.

 قرّرتَ أن تكون حرّا.

 

  أن تبدأ من هذه المهنة الإدارية الرّطبة«أعوذ بالله؛ موظّف أرشيف قميء في قبو مغبّر قذر بمحكمة متداعية لبلدة هامشيّة؛ يا لطيف..».وابل من الملفّات المتراكمة  بخصوص أزواج هاربين وأطفال جانحين وأبناء عاقّين وبائعي سمك وجيران متخاصمين ووقائع سرقات وهتك أعراض واغتصاب وسباب وشتم وإكراه وتزوير واحتجاز وغيرها من المصائب التي تعبّئ ذاكرتك منذ عشرين عاما،ويرزح قلمك ومكتبك الأرضيّ  الناتئ تحت ثقل تفاصيلها.ولبياض سعدك، تواتيك فرصة المغادرة الطوعيّة،أخيرا،لتتحرّر من رطوبة الجحر سيّئ التّهوية ،معتّم الإضاءة،لتنكسر مخالب الرّوتين التي أدمت روحك أكثر من أيّ شيء آخر.تستطيع، الآن،أن تختمر في فراشك إلى منتصف النّهار فلا يتهوّش بالك خشية عقاب أو تتنمّل مؤخّرتك على قاعدة كرسيّ...غير أنّ خلاصك من الوظيفة الكئيبة لن يكفي لتستعذب مياه الحريّة العذبة،أو تستلذّ سريانها المنساب في كيانك ما لم ترمّم خراب روحك مذ انضممت إلى زمرة النّاضجين الموقّرين ، وأُغلقت دونك بوّابة الفتوّة؛ رحاب الضحك المجّانيّ والطيش العابث و اللّهو و المتع الماسخة.لن تطيب حرّيتك،حتما، ما لم تنفصل عن كرة الشّحم الضّخمة التي تضطجع بجانبك،آناء اللّيل وأطراف النّهار«أعوذ بالله،من شخيرها المقيت و عرقها الكريه و أنفاسها المثيرة للغثيان!». لن تطيب لك الحريّة ما لم تفلت بجلدك من أبناءِ كدرٍ كالجراد يعثون في مدّخراتك الهزيلة فسادًا، و في أجمل أيّام عمرك صخبًا واستخفافًا بأفكارك وعنادًا؛ يقضمون بهجة طمأنينتك بطلباتهم المتناسلة وضجيجهم الفتّاك  ونزواتهم النّزقة التي لا تعرف الحدود!

 

 والحقّ أنّ سبيل حرّيتك يبدأ من عتبة بيتك الأرضيّ المائل، وسط حارة النيّارين؛مملكة الرّطوبة والقذارة والعهر،موطن الحشّاشين والهامشين وبائعي الخردة والعراة والعاطلين وذوي العاهات المقيتة والعجزة المشرّدين والغواني والدّلالين والسّماسرة و الفوروسوس*.الرّحيل عن حارة مماثلة ، نجاة من عالم البلاء والوباء،عالم الحدود و السّدود والبرك العطنة وروائح  الكيف و المجاري الطّافحة وصراخ الباعة والشّمامة والمتسوّلين والمعتوهين وطوابير  المتهالكين على أعتاب البيوت .. «يا لطيف.. تقُول الجحِيم، ولعياذُ باللّه.» وتخطو خطوة أخرى نحو حرّيتك البهيّة؛تنسلخ ،أخيرا، عن جلدك البالي لست نادما على شيء. ويطيب لك الاستقرار بشقّة جديدة في عمارة جديدة وسط حيّ راقٍ،ولكي تصفوَ حرّيتك المكدّرة لم يبق غير  أن تتخلّص من قيدٍ أخير،تحسب أنّه أيسر بكثير من سابقيه«هو ذاك، صحبةُ النّادي المملّة ، بليّة الزّمن الغابر ؛ أيّام عجزت عن اتّخاذ قرار مصيريّ بهذا الحجم :أن أصبح حرّا » صحبة النّادي؛ نخبة رفيعة من أصنام ذات وجوه مفكّكة و سحنات غبراء و طّباع هوائية متقلّبة ؛منها ما وسمه السّكريّ بردائه الأصفر المقزّز،وعناده الأسطوريّ وتشنّجاته المفاجئة،ومنها ما أطبقت عليه أحكام العادة الرّتيبة فأضحى كائنا مبرمجا مسدود الفجوات؛لا منفذ للحياة إلى كيانه أو للخيال.صحبةُ النادي؛قل: صحبة القيل والقال،وفتح ملفّات الرّجال، وانتظار مواقيت الصّلاة ،ولحظةِ انقضاء الآجال«أعوذ بالله ؛كانت نفسي عفّت مجلسهم كلّ مساء،حتّى صرتُ أشفق عليها من مآل مماثل بعد فترة قصيرة من الزّمن،لولا أن تداركتني، بغتة،لوثةُ التحرّر.والحمد للّه على كلّ حال».ولكن مهلا، مهلا ،حتّى تصبح حرّا بحقّ،ينبغي أن تكون صريحا مع نفسك،قبل أن تكون صريحا مع الناس؛عليك أن تعترف باستحالة حرّيتك بعيدا عن التخلّص من تلك الطقوس التعبديّة التي نُقشت في وجدانك مذ كنت طفلا أبلها تصلّي بدون وضوء،وتدّعي الصّيام وأنت مفطر،وتخلع عليك لباس التّقوى وأنت شيطان لعين بلا شوارب. عليك إذن أن تتحرّر من برودة الفجر وجوع البطن وأن تقرَب الحِمى !ثمّ ما بال لسانِك يجترّ هذه المعاني المهضومة ، أنت يا من يروم بهاء الحريّة الرّحبة و يتشوّف إلى معانقة المطلق؟

 

« المعذرة،عليّ إذن،أن أجتاز هذا الحاجز، وأفتّش كياني معنى معنى و لساني كلمة كلمة قبل أن أفكّر أو أقرّر أو أبوح ،واللّ..»

 

 وابتذلتك لحظات حياتك الجديدة  وأحوالها.وتقلّبْت بين نعمتها ونقمتها  أيّاما وشهورا. وكلّما تأمّلتك، أصغيت إلى حالك يعلن:أنا بحاجة إلى وقت أطول لأعتاد حياتي الجديدة،و أتعلّم كيف أرضع منها شهد حرّيتي المستعادة.ثمّ يلفّ الزّمن بك حولا كاملا لتنتهي إلى اعتراف خجول: « لن أعدم الوسيلة لأتكيّف مع وضعيتي الجديدة كرجل حرّ في عالم حرّ، سوف أحتمل رحابته الشاسعة و فراغه وامتداداته، سأخبر، لا محالة ، متاهاته ومسالكه المجهولة الوعرة»وقلت وقلت وقلت ،وأنهكك القول.ولكّنك،مهما أبحرت، لا تفتأ ترسو على حقيقة الحقائق:لقد أصبحت عبدا لهذا العراء الذي يترّع حياتك، عبدا لوحدتك ووحشتك وذهولك! قل:إنّك تتوق أكثر من أيّ وقت مضى إلى عالم بيتك الأرضيّ الآمن،إلى  عناد دبّتك و ثرثرتها التّافهة و ضحكها المجلجل، إلى وئام الأبناء  تحنّ و خصامهم ،إلى فرحهم العارم و أحزانهم العابرة.ثمّ إنّ حارتك العتيقة ليست كلّها بؤسا وحقارة،ولا كلّ أصحاب النّادي على تلك الصورة  الكريهة التي وسمتهم بها «لا يمكن أن أنسى معروف الحاج العاقل ليلة ازداد ولدي رشيد،ولا انتصار المصطفى ولد حليمة لي عندما تهجّم عليّ بن عمّته النّسناس» لن تنس،حتما،أجواء رمضان البهيجة وبسمة العيد المشعّة من عيون الأطفال المشتعلين فرحا،ولا حلقات العلم و الحكمة  بالمسجد الأعظم، و وزيعة ولد العيساوية الأحد الأوّل من كلّ شهر تقيك ذلّ الاحتياج؛ و أمسيات البارتشي والدّعابة بدكّان زغيمبو... إيوا، ومباريات اللّيگا  في قهوة البشير المعلّقة «آه،كيف كان الوقت كيسيل بلا منفطن به، ماشي فحال دابا ، ما كيجوز عليّ النهار حتى كنشوف النجوم» وها قد تاقت روحك لتلك المسيرة التي تقطعها من حين لحين طليقا بساحة السّوق الفوقيّ المشتعلة التحاما و ملاحة ورائحة بخور ، مرورا بعالم الخرّازين المترع بإيقاع المطارق المتناغم ورائحة الجلد التي تملأ الرئتين إحساسا بأنّك في قلب مدينتك؛بيتك؛عالمك الذي تعرف كيف تفكّ رموزه وتتحدّث لغته.وتدرك الآن،بينما تسحبك قدماك من ساحة "الفدّان" عبر "زنقة الزّاوية" إلى حيت دفنت حرّيتك منذ سنتين،بأن العبودية الحقيقة هي ألاّ تكون ذاتك،في اللحظة التي يستحيل عليك أن تكون غيرك،أن تكفر باختيار كرّست له حياتك فتنسلخ عن جلدك وتكفر بأهلك وعشّك و يقينك.لقد كنت دائما حرّا،حتّى ولو لم يكن لك يد في اختيار حياتك،  يكفي أنّك اخترت أن تواصل الحياة   «أولم أكن حرّا عندما اخترت مواصلة حياتي على هذا النّحو ؟» ويركبك الحنين،مرّة أخرى، إلى مقرّ عملك بالقبو الحميم إيّاه،تذكر بوضوح كيف كنت تتمايل مع أمواج الإذاعة ،منهمكا في نسخ القضايا، ،مسحورا بصوت عبد الصّادق شقارة الشجيّ الذي يعبث زجله الرّقراق بجوانحك«آحّاح... وآحيّانا ،على قلبي و ما فيه...إلى نعيد لك شنّو فيه ، الحجر الصمّ نبكّيه..» و يسري إيقاع  الأغنية في وجدانك فتحثّ الخطى إلى عشّك المضيء الرّحب ،على ضيقه،ببسمة دبّتك الحبيبة وأطفالك المرحين الأشقياء ، وعالم حارتك المشرّع على كلّ مظاهر البساطة والبهجة والعفوية و القبول والانطلاق «سوف أبحث عن دكّان صغير ،هناك، أبيع فيه وأشتري»لا عليك في أنّك جرّبت أن تكون عبدا للفراغ ،ما دمت قرّرت أن تعود إلى نفسك،إلى مواصلة حياتك التي لا تتقن غيرها.إلى نسف عبودية الهباء في أعماقك.ما دمت قرّرت،بمحض إرادتك،أن تواصل الحياة،مادمت قرّرت بمحض إرادتك أن تبقى حرّا !

  

 

 

 

 

الرجوع إلى مواد الانطولوجيا

 

 

خريطة الموقع

 

بَيَانَاتُ أدبية

"المدرسة الحائية"

"الحاءات الثلاث" مضامين الغد

مَقَالاتُ متخصصةُ

 حِوَارَاتٌ مع الرَّيْحَاني

 حِوَارَاتٌ من الشرق والغربٌ

شَهَادَات فِي الإبْدَاعِ وَالتّلَقي

درَاسَات سِيميَائِيَةُ للأسماء

دِفَاعًا عَنِ الْقِرَاءَةِ

موسيقى الخلاص

ناس الغيوان

رهانات الأغنية العربية

سيرة ذاتية روائية

مجاميع قصصية على الخط

مجاميع قصصية مشتركة

يوميات

المَكْتَبَةُ الإِلكْتْرُونِيَةُ

مترجمات

السيرَةُ الذَّاتِيَةُ

روابط ثقافية

الألبوم المفتوحُ

ENGLISH

FRANCAIS

الصفحة الرئيسية

 

 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف

 

 

 

ALL RIGHTS RESERVED

 

 e-mail : saidraihani@hotmail.com

ENOTE

<title>http://www.raihanyat.com/arabicversion-anthology3-index.htm</title>

<meta name="description" content="محمد البوزيدي">

<meta name="keywords" content="قاص مغربي، روائي وباحث مغربي في مجال الفنون الشعبية